العدد 928 - الإثنين 21 مارس 2005م الموافق 10 صفر 1426هـ

أبعد من المكان

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

ما من متعة اكثر من طواف الازقة العتيقة في المحرق والاحياء القديمة من المنامة والقرى، هذه ليست علامات نوستالجيا لشخص يمضي في عقده الرابع إذا ما تعلق الامر بالتفسير النفسي المؤكد عن الحنين للطفولة. اعتقد ان المسألة تتعدى هذا التفسير.

قبل سنوات خلت، كنت آخذ اطفالي في جولة على الاقدام تبدأ من منزل الاهل في شارع الشيخ عبدالله بن حمد في فريق المعاودة جنوب المحرق وتنتهي مرة في سوق المحرق ومرة اخرى قرب جامع الشيخ حمد.

ابنتي البكر وكانت في السابعة او نحوها كانت تتأفف وتقول متبرمة: لا نريد ان نذهب الى المحرق لان بيوتهم "مشققة"، تقصد متداعية ومشروخة الجدران. معذورة هذه الطفلة التي ولدت في الضواحي الجديدة وتربت في البيوت حديثة التصميم، لكن فيما بعد قدر لهذه الصغيرة عندما كبرت ان ترى في مسقط رأس والدها اجمل مدن البحرين.

يتعلق الامر بما هو اكثر من قصص الوالدين عن احيائهم القديمة. وليس من المؤكد ان حنين الآباء والامهات يمكن ان يأتي بتأثير في ابنائهم وفي جيل لاحق ولد في الضواحي والمدن الجديدة. ما هو الفرق يا ترى؟

احد اوجه الفارق هو اننا الآن عندما نتهيأ للنوم، يعيد الوالدين تذكير بعضهما بضرورة التأكد من ان الابواب والشبابيك مغلقة باحكام ناهيك عن شيء من التوتر يلازمنا فيما نحن نتهيأ للنوم. فيما مضى لم يكن النوم على اسطح المنازل ليسبب كل هذا التوتر. الاسطح المحاذية لبعضها والجدران الواطئة كانت تخدم غرضا آخر. فاحاديث النهار غير المكتملة بين الامهات كانت تتواصل مساء فيما بين الاسطح، لهذا كانت الجدران واطئة لكي تتيح التواصل.

ان الحي "الفريج" يلعب ادوارا تتعدى ترسيخ علاقات التضامن الاجتماعي الى ما يمس التوازن النفسي لسكانه ايضا. فالعيش في جيرة دافئة في علاقاتها تساوي الجميع في الاخاء تفضي في النهاية الى خلق منظومة امان نفسي للسكان. وعندما يهرع الناس للنوم على اسطح المنازل مثلا، فان الاحساس بأنك محاط بجيران هم مثل عائلتك يرسخ فيك احساسا بالامان. هذا الشعور يدركة حتما من عاش في الحواري العتيقة ويعيش الآن في الضواحي الجديدة. لكن لا يمكن لوم المفاهيم ونمط العلاقات الجديدة بين الناس فحسب، بل يتعين علينا هنا تحديدا ان نتوقف امام نمط العمارة الرائج الآن.

ان عشت في الصحراء منقطعا لن تفكر في حمل السلاح فحسب، بل ستكتسب عادات الحذر والريبة. سيختلف الامر عندما تملك بيتا على الساحل وكذلك وسط البساتين او في الجبال. اقودكم الى ابن خلدون كي الفت انتباهكم الى التأثير غير المدرك حتى الان للمكان في اصحابه. وفيما خصنا هنا، فان تلك الكراهية التي انبثقت فجأة لدينا لعمارتنا المحلية تحتاج لاعادة نظر امام هذا الاحساس بالتضاؤل كلما تعلق الامر بنا وبالآخرين.

لقد تبين لاحقا ان البيوت المتلاصقة والازقة التي تشكل متاهة حقيقية لم تأت صدفة او بشكل مجاني. فهي لا تصلح للهو الصغار في لعبة "الخشيشة" فحسب بل تؤدي وظائف بيئية ايضا، مساقط لتيارات الهواء في بيئة يغلب عليها الطقس الحار معظم ايام السنة. وسلسلة البيوت المتلاصقة في محيط يكبر او يصغر، يعزز مفهوم الوحدة العمرانية. لكن الاحياء ليست جزرا معزولة، فهي بمحاذاتها لبعضها بعضا وتداخلها خلاف الاشكال الهندسية الثابتة كالمربع والمستطيل والمثلث لا تفعل سوى ان تجعل حدود الازقة متداخلة ببعضها. انتماء البيت لهذا الحي او ذاك يحدده اتجاه بابه الرئيسي، لكن العمارة كان لها رأي اخر عندما راحت تحاذي الجدران الخلفية للبيوت بعضها ليصبح جدار هذا البيت في الحي الاول هو حدود هذا الحي غير المرئية مع الحي الثاني.

انها متاهة حقا، فما كنت اسميه "حينا" كان حيا مختلفا عن حي "البنائين" المجاور، لكن بيوت حي البنائين كانت تحاذي ظهور بيوت حينا فكيف يمكن ان يحدث هذا لولا انها خصوصية العمارة التي فرضتها ظروف المكان والبيئة.

لكن مجتمعات القرن العشرين اظهرت بالمقابل ان في عمارتنا التقليدية بعض الاعاقة ايضا لمتطلبات لا غنى عنها. فالشوارع الضيقة لا تسمح بمرور سيارات الاسعاف او الاطفاء وعليه فإن الحاجة إلى شوارع واسعة تبقى ضرورة لا نقاش فيها. لكن هذا لم يدفع بنا الى محاولة ايجاد توازن بين متطلبات الحداثة وبين الحفاظ على مزايا العمارة التقليدية، اهمها تأثيرها الاجتماعي، بل دفعنا في اتجاه آخر تماما مع هذا النوع من العمارة الرائجة الآن. اجتماعيا، تمثل الخصوصية الدافع الاكبر لنمط العمارة الرائج الآن، لكن تعبيرات هذه الخصوصية تمضي الى ما هو ابعد بكثير، الى السلبية في السلوك ولعل هذا ما يفسر هذه الشكوى المريرة التي ما انفكت تتردد عن سكان الضواحي الجديدة. فهم لا يميلون إلى نسج العلاقات عموما ويبقون على الحبل السري مع مدنهم القديمة.

لقد شهدت السنوات الاخيرة اتجاه الكثيرين إلى بناء منازلهم بأشكال تستوحي البيوت القديمة، هذا جيد لأنه يدل على حس جمالي يعيد الاعتبار للعمارة التقليدية، لكنه مازال قاصرا عن ايجاد احياء تؤثر ايجابيا في سكانها. يبدو هذا مثل امنية غير علمية لان تأثير المكان ليس مطلقا والقيم والمفاهيم لا تتشكل بالمكان فحسب. لكن فكروا في الامر على هذا النحو: ما هو تأثير ذلك على الاطفال مثلا؟ كيف يمكن ان يؤثر نمط عمارة يوفر مفهوم "الحي" على الاولاد الذين سيولدون ويكبرون فيه؟

لست ادري، لكنني اشعر ان بالامكان ان يكون هناك فارق لولا اننا نفتقد الدراسات. الدراسات... آه عدنا الى "لولا"

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 928 - الإثنين 21 مارس 2005م الموافق 10 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً