أكثر الخطابات عقلا ورؤية في الموضوع اللبناني الماثل هو خطاب بهية الحريري في التجمع الضخم يوم الاثنين الرابع عشر من مارس/ آذار، بمناسبة مرور شهر على اغتيال رفيق الحريري. كان خطابا مترفعا ومتطلعا إلى المستقبل، على رغم أنه منسوج بالدمع والحزن العميق الذي لا يبرأ. وبهية الحريري مهمومة فوق نزاعات الفرق وتوزيع المغانم بتقدم لبنان كرافعة لتقدم العرب. وهو يتحمل المغارم ويتصدى للمسئولية.
ذلك دأبها، لمسته شخصيا في اجتماعات مؤسسة الفكر العربي التي هي عضو فاعل في مجلس إدارتها، تحرص دوما على تعضيد اللقاءات الثقافية المعبأة بالهم العربي.
وهي سيدة في الحالات العادية خفيضة الصوت سلسة الأفكار، ومترفعة عن الصغائر، همها لبناني عربي، فلديها لبنان والعرب صنوان لا ينفكان عن بعضهما.
متابعة بدقة ولماحة للأفكار الجديدة، معتنية أشد الاعتناء بالجيل الجديد ومراهنة عليه، وتعرف حق المعرفة موقع لبنان في العرب، وموقع العرب في لبنان. وبدلا من أن تسبح في بحر أحزانها نهضت من محاولات التقزيم التي يراد أن تفرض عليها، إلى العملقة، معتبرة رحيل العظماء عن الدنيا، هو موعد لمواسم الخير للوطن، وهو لا يتحقق إلا للأخيار.
قرأت خطابها الأخير وتابعت نشاطها منذ اغتيال شقيق روحها وشقيقها الشهيد رفيق الحريري، فوجدت كغيري، أنها عن حق أخت الرجال، لا قولا بل واقعا، فقد قدمت في ذلك الخطاب بوصلة للمستقبل.
في خطابها الذي قرأه البعض كما يشتهي، تزايدا أو نقصانا، يقبع حلم الدور اللبناني عن حق. لقد وقفت بشجاعة على أكثر من ملف واضعة الأجندة التي يجب أن يتمثلها كل لبناني، وكل عربي يحب لبنان والحرية معا.
قالت في ذلك الخطاب، إن الذين يخافون على لبنان من الانقسام يجب ألا ينكفئوا على أنفسهم، ولا يذهبوا إلى بيوتهم ويقفلوا الأبواب، لقد فعلوا ذلك في السابق وتحديدا في العام 1975 فدخل لبنان في نفق مظلم، لأن المخلصين نفضوا أيديهم عن مستقبل لبنان، ترفعا عن الدخول في مستنقع الحرب، وتركوه لقلة من المستفيدين وتجار الحروب. إذا هي دعوة واضحة للبقاء بصلابة على الأرض، وعدم انسحاب العقلاء عن الساحة، وأن يكونوا "في مقدمة الناس وليس فوقهم"، تلك إشارة مستنيرة لنوع القيادة المطلوبة.
وفي الخطاب دعوة للجنة تحقيق دولية، تبحث بحرية وتجرد، عن خفافيش الليل الذين اغتالوا الحريري، مرورا لاغتيال لبنان الدور والمنارة، وهو طلب في مقاومته دلالة على خوف الأجهزة، التي تتعلل بالكثير من خواء المنطق، بمفردات لا تدخل إلى العقل السليم، وليس لها معنى غير ذلك المعنى، الذي يقود إلى رغبة أكيدة في طمر الحقيقة وحماية الجناة.
وفي فقرة الخطاب المعنونة بـ "حليف الفقراء"، قدمت بهية رؤيتها للبنان القادم، وهي المهتمة بالتعليم والثقافة، فقالت إن العلم والمعرفة هما سبل تقدم الشعوب، وهي فكرة مرجعية ومركزية في أعمال الشهيد رفيق الحريري الإنسانية التي طالت كل أبناء لبنان، لأنه ورفيقة دربه السياسي بهية، من أولئك الأشخاص الكثر في لبنان وبلاد العرب، الذين يعتقدون، من دون أدنى تردد أو شك، أن سبيل التقدم الحق هو العلم والتمكن من المعرفة الحديثة.
وفي الشأن الداخلي فرقت بهية في ذلك الخطاب التاريخي بين "الدولة الأمنية" وبين "الدولة الآمنة"، ويسند هذا القول مشاهد من التاريخ المعاصر لا حصر لها، فمن أجهزة صدام حسين مرورا بأجهزة تشاوشيكو في رومانيا، وانتهاء بأجهزة السافاك الشاهنشاهية، وغيرها من الأجهزة القمعية التي مهما تطاول صلفها فهو إلى حين، تخلق جلبة وخوفا سرعان ما يتبدد، لتعلو أصوات الضحايا على أصوات الجلادين، حتى جماجمهم في القبور تختال أمام القاتل في نومه وصحوه، فالقتل والقمع وأخواته فعل ناظم للمجتمع إلى حين لأنه مولد للانفجار الضخم بعد ذلك.
نظرت بهية بعيدا في خطابها حين أعلنت تكوين لجنة وطنية لتنفيذ اتفاق الطائف، وهي خطوة يحزن المتابع في فضائنا العربي حين يعرف كيف تأخرت ولماذا تأخرت. فحين تقرر خطوات عقلانية لإنقاذ الوطن، ثم ينحى القائمون على السلطة بشيء من المسكنات تسويفا للاستحقاق، كل الاستحقاق، يعرف المراقب أن هناك مرضا مزمنا وجب علاجه. وباقتراح تشكيل هذه اللجنة التي توافقت عليها القوى السياسية في لبنان منذ أكثر من خمسة عشر عاما، يوضع لبنان على السكة الصحيحة لمستقبل حلم به الحريري وأحرار لبنان.
نتخاصم ولا نفترق
المنظور المستقبلي والتوافقي الذي نظرت إليه بهية الحريري في صلب خطابها، هو دعوتها للحوار وفرد جناحي لبنان المحلق كي يستظل بهما كل الفرقاء، فحديثها عن السيدحسن نصرالله، والرئيس نبيه بري، وكل القوى اللبنانية الوطنية، هو حديث وفاق، وأن يأتي منها وهي في صلب المحنة، هو تسام على الجرح ووضع حق الوطن قبل الحق الخاص، وإن كان له خصوصية عميقة، فقد تحدثت عن الوفاق لأنه مدخل لصيانة الوطن، مع عدم التنازل أنملة واحدة عن متابعة معرفة الحقيقة، حقيقة من اغتال الرجل الحلم رفيق الحريري.
أما الدعوة الأوسع التي تظهر ما لدى هذه السيدة الكريمة من مخزون عربي صاف، فهو الحديث عن الجرح النازف في فلسطين، ودعم المؤسسات العربية المشتركة، واحترام الخصوصيات، ودعوة العرب للوقوف مع لبنان، هي دعوة تعني ضمن ما تعنيه ذلك الحبل غير المنقطع بين عرب متساندين ومتساوين.
وفي هذا الجو لم تتأخر السيدة بهية عن ذكر سورية، فسورية الشعب وسورية الجوار، وعلى رغم كل الشعور السلبي نتيجة أخطاء مميتة، هي جارة. وتتجاوز بهية الشكر إلى طلب اللقاء على قاعدة أوسع وأعمق من الثقة والمصالح المتبادلة، من دون ضرر أو ضرار، فالخصام في الجزيئات والاختلاف بشأنها جائز وصحي، أما الافتراق فهو مميت لكلا الأطراف، إلا أن هذه الدعوة تعني أيضا النظر بجدية إلى مسيرة إصلاح داخلية سورية يتمناها كل المخلصين، لإخراج سورية من دولة الأمن إلى دولة الأمان.
لعل المشكلة في هذا أن البعض، نتيجة لأسباب كثيرة ومدخلات معقدة لا يقرأ ما هو مكتوب على الجدران، ولا يتعلم من التاريخ.
في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي نشرت الصحف اللبنانية ووكالات الأنباء تصريحا ملفتا لغبطة البطرك نصرالله صفير يقول فيه: "نتمنى ألا يتكرر ما حصل في عهدي بشارة الخوري وكميل شمعون، والضيف السوري طالت أقامته". في هذه الكلمات التي تتحلى بالحكمة والرأي الشجاع في آن، يكمن الفرق بين القراءة الصحيحة للحوادث، وبين الأمنيات التي تزينها تقارير الأجهزة، فقد أمسى تضايق فئات لبنانية عدة من تحكم الأجهزة في رسم العلاقة بين البلدين، بعيدا عن النقاش السياسي الحر، عبئا لا يطاق، فهناك طريق وسط بين المدح المنافق والذم المرير، يحكمه العقل لا العاطفة، ويصل إليه الفرقاء بالحوار لا الأوامر.
بقتل الحريري أريد للدولة اللبنانية أن تفرط، و"فرطها" هو أسهل من "لمها" كما تعلم اللبنانيون، وتكمن حكمة خطاب بهية الحريري في الزمن الصعب في تقديم طريق لم الشمل. وهو خطاب يذكرنا بقول أيلي حبيقة لرفيق الحريري، كما جاء في لقاء مطول قديم مع الأخير، أن حبيقة قال للحريري أثناء مفاوضات بسط السلم الأهلي الذي آمن به الحريري وسعى حثيثا إليه: "أنت، "أي الحريري" هو أول مسلم أصادفه ولم أطلق النار عليه"! كان وقتها لم الشمل الذي قاده الأخ وها هي الأخت تؤكده اليوم بإصرار.
الوضع اللبناني في حال سيولة، وصوت العقل هو أول احتياجات لبنان وبدعوة بهية الحريري للقاء لبناني عربي دولي في الثالث عشر من أبريل/ نيسان المقبل، يوم بداية الحشر اللبناني الحديث، يوم تفجر غضب اللبنانيين على مسيرة طويلة من العنت، وانطلقت شرارة الحرب الأهلية، هو مرة أخرى مد للجسور، تذكيرا بمآسي الماضي على أمل تجنبها، وتطلعا لازدهار وطني جديد، هو ما سعى إليه رفيق الحريري في حياته، ويتحقق اليوم بثمن غال هو دمه ورفاقه الموارى ثراهم في ساحة الحرية، انتظارا لقيام لبنان جديد
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 928 - الإثنين 21 مارس 2005م الموافق 10 صفر 1426هـ