بادر الأردن إلى استضافة إطلاق تقرير التنمية البشرية الثالث في العالم العربي للعام 2004 في ابريل/ نيسان المقبل، على ما أفادت به مصادر دبلوماسية، منهيا بذلك جدلا واسعا دام شهورا بعد أن تأجل نشره لعدة مرات إثر اعتراضات أميركية ومصرية على تناوله للاحتلال الإسرائيلي من جهة وتوريث السلطة في القاهرة من جهة أخرى.
وبحسب التقرير، تعاني البلاد العربية من عجز في الحريات وغياب الحاكمية الرشيدة، فيما لا تملك الشعوب العربية حق تقرير مصيرها، فالمنطقة "متأخرة حتى عند مقارنتها بأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا".
مديرة المكتب الإقليمي للدول العربية في البرنامج الانمائي للأمم المتحدة ريما خلف ذكرت أن إعلان نشر التقرير جاء في وقت تشهد فيه عدة عواصم عربية بداية مسيرة إصلاحات سياسية ابتداء من الانتخابات التي جرت في العراق ومرورا بالانتخابات الفلسطينية، فضلا عن تغييرات غير مسبوقة في مصر تمثلت في تعديلات مزمعة على القانون تسمح بانتخابات رئاسية تعددية للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، وفي السعودية التي شهدت انتخابات بلدية للمرة الأولى في تاريخها مع أن المرأة منعت من المشاركة فيها.
غير أن التقرير الذي اعتذرت الجزائر عن استضافة إعلانه لانشغالها بالقمة العربية، يشير إلى "خيبة أمل العالم العربي تجاه الولايات المتحدة التي تنظر إلى الدول العربية من خلال موقفها تجاه ملفي العراق و"إسرائيل" وتغض النظر عن أي شيء آخر"، فيما تبدي "القوى الوطنية استياءها من الضغوط الخارجية وخصوصا في لبنان ومصر".
ويعتبر مراقبون أن موجة الاصلاحات الأخيرة في العالم العربي وإن كانت خطوة إيجابية، فإنها تبقى إجراءات شكلية لا تلبي طموح شعوب المنطقة التواقة إلى التغيير من نظم حكم أوتوقراطية إلى مجتمعات حرة.
ويشير دبلوماسيون مطلعون على قياس التغييرات الديمقراطية بسلبية إلى تونس والأردن لعدم تمكنهما من تعزيز المسيرة الديمقراطية، وبالتالي عدم قدرتهما على مأسسة الاصلاح للبناء عليه، فيما تمثل الانتخابات البلدية التي جرت في السعودية أكبر تحول إيجابي تجاه الحريات العامة في العالم العربي على اعتبار أن قياس التحول ينظر إلى التغييرات التي تجرى من نقطة البداية التي انطلقت منها ووجهة التغيير.
أما في لبنان الذي يعد من أفضل الدول العربية من ناحية حرية الصحافة والتعبير عن الرأي فمازالت هناك "محاصصة" سياسية بين الفئات والطوائف، بينما يعتقد دبلوماسيون أن الزلزال الذي بدأ على خلفية اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري قرع جرس الانذار في بقية العواصم العربية.
وعلى رغم الاعتراضات الكبيرة للولايات المتحدة الأميركية التي وصلت إلى حد التهديد بوقف تقديم المساعدات إلى البرنامج الانمائي للأمم المتحدة وأدت إلى تأخير إعلان التقرير حتى الآن، فإن واشنطن قبلت أخيرا بنشر التقرير الذي شارك أكاديميون وقانونيون عرب ومنهم مصريون في إعداده بعد إدخال تعديلات بسيطة لا تعدو كونها مجرد رتوش لا تؤثر في جوهر التقرير عموما بحسب مصادر دبلوماسية وفقا لخلف، التي أدلت بتصريحاتها في العاصمة الأردنية "عمان" ونشرتها صحيفة "الغد" الأردنية، عن واقع الدول العربية حاليا مع المجتمعات الحرة، موضحة أن هناك فجوة كبيرة بين الوضع على أرض الواقع وما يتمناه الكثيرون في المنطقة، الأمر الذي "يشكل مصدرا كبيرا للاحباط والاستياء بين العرب حيال إمكان ارتقاء بلادهم إلى مجتمعات تتمتع بالحرية والحاكمية الرشيدة".
وعلاوة على ذلك، قالت خلف إن "التوجهات المتواصلة في العالم العربي وتركيبته المجتمعية قد تؤدي إلى أزمة اجتماعية اقتصادية سياسية"، موضحة أن "كل مرحلة من هذه الأزمات قد تفرض نفسها حقيقة جديدة ينجم عنها غياب العدالة بطريقة لا يمكن السيطرة على تداعياتها".
وأردفت ان "العالم العربي يمر في مرحلة حاسمة لا تسمح بالتسوية أو الاسترضاء، وإذا كان العرب يريدون مجتمعات تتمتع بالحاكمية الرشيدة عليهم أن يكونوا خلاقين في مجتمعهم".
وأشارت إلى ضرورة "إيجاد نموذج للانتقال من حال الاضطهاد وتدني الحريات إلى الحرية والحكم الرشيد الذي يقلل من شأن الاضطرابات في المجتمع التي يدفع ثمنها المواطن العربي إلى أقصى حد ممكن".
وكانت مصر آخر بلد شرع في خطوة غير مسبوقة نحو الاصلاح عندما فاجأ الرئيس المصري حسني مبارك بلاده وبقية العالم بطرح الانتخابات المباشرة للرئاسة، إلا أن التوقعات تشير إلى أن "التغييرات ستظل مقيدة وستنتهي بإعادة انتخاب مبارك الذي حكم أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان لربع قرن متواصل". وعلى رغم ممن يعتقد أن مصر لن تستطيع كبح جماح النزعة للتغيير.
وهناك نقطة تحول أخرى في الشرق الأوسط حدثت في 30 يناير/ كانون الثاني عندما شهدت العراق أول انتخابات تعددية منذ خمسة عقود على رغم أنها جرت تحت الاحتلال. وقبل ذلك جرت الانتخابات الفلسطينية في التاسع من يناير والتي انتهت بتولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية خلفا للرئيس الراحل ياسر عرفات.
وترى الولايات المتحدة في عباس "محاورا معتدلا" على خلاف عرفات الذي "ظلت تعتبره عقبة في طريق السلام"، فيما يتوقع الفلسطينيون من عباس ان "يوسع قاعدة الديمقراطية ويطلق الاصلاحات المنشودة في مختلف المؤسسات الفلسطينية لمأسسة الديمقراطية ووضع قواعد الحكم الرشيد".
وهناك دعاوى مرتفعة في الإمارات التي تمنع تشكيل الأحزاب السياسية لتغيير هيئتها المعينة إلى جسم منتخب، فيما ينتظر أن تلبي البحرين الطلبات المتنامية من المعارضة لتشكيل حكومة ديمقراطية وممثلة.
وبينما وعدت قطر أيضا بتنظيم انتخابات تعددية وسمحت للنساء بترشيح أنفسهن والتصويت، تقدمت الديمقراطية والتعددية في المغرب التي تتمتع بصحافة تعددية وحرة نسبيا، في حين منحت مدونة الأحوال الشخصية دورا أكبر للمرأة في الحياة السياسية والعامة، مع وعود بتحقيق المساواة بين الجنسين في مجتمع ذكوري يعاني من نسبة مرتفعة من الأمية والفقر. وكانت الانتخابات التي عقدت في الجزائر متميزة.
وتبقى ليبيا في موضع مماثل على رغم وعود رئيسها في عدم الانخراط في الإرهاب العالمي. فيما تراجعت سورية بعد فشلها في تعميق الاصلاحات السياسية.
وكانت مصر أبدت انزعاجها من الإشارة إلى "توريث" السلطة في التقرير، باعتباره يشكل خرقا للديمقراطية، ومنعت إجراء استطلاعات رأي عن الحريات، وكانت الدولة العربية الوحيدة التي احتجت رسميا لدى برنامج الأمم المتحدة الانمائي.
أما الإدارة الأميركية فأبلغت البرنامج عبر وسائل غير رسمية أنها تعارض تطرق التقرير إلى الاحتلال الإسرائيلي باعتباره يتحمل مسئولية عواقب سلبية على التنمية الإنسانية.
وهددت واشنطن ضمنا بقطع الأموال عن البرنامج، علما بأنها حجبت 12 مليون دولار عنه السنة الماضية عقابا له لانتقاده الاحتلال الإسرائيلي واعتباره أحد عوامل تعطيل التنمية البشرية العربية.
كما انزعجت واشنطن من انتقاد انتهاكات الحق في الحياة والحرية في وضع العراق بعد الاحتلال، لكن ما أثار غضبها بحسب المصادر هو تضمن التقرير انتقاد "إسرائيل"، واعتبار ممارساتها مثل هدم المنازل والاغتيالات واستخدام القوة ضد المدنيين ذات أثر سلبي يعوق التنمية البشرية.
وتعد الولايات المتحدة أكبر مساهم في الأمم المتحدة، وتتبرع بنحو مئة مليون دولار للبرنامج الانمائي للأمم المتحدة الذي تقدر موازنته السنوية بنحو 700 مليون دولار، ونفى البيان الأخير الصادر عن البرنامج أن "تكون الولايات المتحدة هددت بوقف مساهماتها المستقبلية في موازنته".
وبدأ البرنامج الانمائي قبل ثلاثة أعوام بنشر تقارير خاصة بالتنمية في المنطقة العربية، وأثار التقرير الأول سنة 2002 الذي كان موضوعه "خلق الفرص للأجيال القادمة" ضجة كبيرة مازالت مستمرة، إذ تحدث صراحة عن نقص يعترض التنمية الإنسانية العربية في ثلاثة مجالات محددة تشمل المعرفة، الحرية وتمكين المرأة، وهي الموضوعات الثلاثة ذاتها التي تحولت إلى عناوين رئيسية في التقارير اللاحقة.
وكان موضوع التقرير الثاني سنة 2003 "نحو مجتمع المعرفة"، وأطلق مبادرات في التعليم والبحث والترجمة ورافقته ضجة أقل من تلك التي رافقت سابقه، فيما تناول التقرير الثالث لسنة 2004 الذي يثير جدلا كبيرا حاليا موضوع "نحو الحرية والحكم الصالح"، فيما يتناول التقرير الخاص بالسنة الجارية 2005 موضوع "تمكين المرأة وتطويرها".
واستندت الإدارة الأميركية إلى بيانات تحليلية وردت في التقرير الأخير الذي أعده الباحثون أنفسهم العام 2002 لإطلاق مبادرة الشرق الأوسط الكبير بشأن الإصلاح والتحديث في العالم العربي
العدد 926 - السبت 19 مارس 2005م الموافق 08 صفر 1426هـ