ابتداء، قد لا أكون متجاوزا إذا قلت إن الأمم والشعوب الحية هي التي تتوقف بين الفينة والأخرى وعند المنعطفات التاريخية في مسيرتها التطورية، لتقوم بعملية جرد وتقييم لكامل أدائها وعلى الأصعدة كافة، باعتبار أن ذلك يمثل قناعة ذاتية بأهمية المراجعة التاريخية التي تفضي إلى تثبيت عملية النقد الذاتي وتصحيح الأخطاء من دون النظر إلى ذلك بعين الاستنكاف أو التعالي.
وفي حالتنا البحرينية، فإنه في الرابع عشر من فبراير/ شباط الماضي يكون قد مرت ثلاث سنوات على استئناف العملية الديمقراطية الجديدة التي انقطعت بالتغييب القسري للمجلس الوطني ،1975 فهي وان كانت تعتبر قصيرة زمنيا مقارنة مع الأمم المتقدمة والشعوب المتحضرة إلا أنها كانت حافلة بالحوادث والتطورات المتباينة الأثر، وتقتضي الموضوعية منا أن ننظر إلى المسألة من جوانبها كافة، حتى إذا ما فعلنا ذلك فإننا سنجد أنها قد حفلت بكثير من التحولات الايجابية، لاسيما على الصعيد السياسي وصعيد حرية تشكيل الأطر التنظيمية لجميع قوى المجتمع، وعلى صعيد الحريات عموما.
ومن الناحية الأخرى فإنها شهدت بالمقابل تراجعات مقلقة على الأصعدة ذاتها كحرية التعبير وحرية التحركات السلمية، وذلك من خلال طرح الحكومة لحزمة من القوانين المقيدة للحريات لتمريرها من خلال القنوات التشريعية على رغم رفضها اجتماعيا وهي التي تعيد إلى الأذهان أجواء ما قبل الميثاق.
وعلى رغم أن ميثاق العمل الوطني قد حدد مسارات العمل التنفيذي والتشريعي ووضع النقاط على الحروف وشكل مرتكزا محوريا داعما للعملية الإصلاحية، إذ لا توجد هنالك وثيقة حظيت بإجماع شعبي عارم بين أبناء المملكة مثلما حظيت به وثيقة ميثاق العمل الوطني "98,4 في المئة". إلا أنه لا يشكل نهاية الأشياء أو ذروتها، على الأقل فيما يخص سقف العمل السياسي والحريات العامة، لأنه لا يمكن لأية سلطة في العالم مهما أوتيت من قوة أن تضع سقفا نهائيا أو حدا أقصى لما يمكن أن تتنازل به عن سيادتها المطلقة على صناعة القرار وتفردها به. وحتى لو فعلت ذلك فإن تحولات البنية التحتية "الاقتصادية" وعلاقاتها المجتمعية والاجتماعية ستتجاوزها وتضعها في حرج شديد ليس أمام مراكز القوى الاجتماعية الداخلية وحسب، وإنما أمام الاستحقاقات العالمية التي رتبتها الاتفاقات والمعاهدات الدولية وأصبحت معايير الالتزام بها والتوافق معها كونية لا تقدم عليها لا مفاهيم السيادة الضيقة، ولا تتفادها التخرصات التي لا طائل منها، سوى زيادة المعاناة وتصعيب عملية الإصلاح وزيادة كلفتها. إلا أنه يجب التنبيه أيضا إلى أمر قد يكون أهم مما ذكر وهو تنشيط العملية السياسية ضمن محددات ميثاق العمل الوطني وتجاوز أي عقد ضميرية أو ما شابهها، قد تساعد على تقزيم عملنا أو تحجيمه أو ربما تجميده ووضعه على الرف بانتظار الأكثر، لأن التعامل مع ما هو موجود ليس بالضرورة كينونة بالاعتراف به كمخلص ومنقذ وتحويله إلى مقدس، وإنما تساعد عملية تحريكه وتشذيبه اليومي المتراكم إلى إيجاد ما يمكن أن يسمى بالتلازم الإيجابي أو حوار نقدي عملي مع هذا الموجود، ولكي لا تنطبق علينا حادثة من نصح بأن يشعل شمعة في الظلام فرفض بحجة أن الصبح قريب!
كما أن حال التراجع التي يشهدها المشهد السياسي بين آونة وأخرى - كالتهديد بإغلاق الجمعيات، غلق مركز البحرين لحقوق الإنسان، قانون التجمعات وأخيرا إغلاق بعض المنتديات الالكترونية - لا تجعلنا نجزم بعقم ذلك الواقع، لأن هنالك انجازات تحققت ولا أحد يستطيع نكرانها. إلا أن ما يمكن تأكيده أيضا مرة أخرى أن الميثاق ليس نهاية المطاف، وإلا نكون قد اخترنا الجمود والاطمئنان الخادع لما نحن فيه بمعزل عن التحولات الجارية من حولنا، لذلك فالميثاق بحاجة إلى إعادة تقييم، شأنه شأن بقية موضوعات وعوامل تقدم المشروع الإصلاحي وذلك لتأمين عنصر المواكبة والتماهي مع الأحداث محليا وإقليميا وعالميا.
وما يمكن الإشارة إليه في هذا الجانب أيضا، هو أنه لا توجد إشكالية واحدة يمكن أن نختصر فيها العمل السياسي في البحرين، ثمة مسائل مركبة وشائكة لكنها ليست مستحيلة، أهمها تلك التي تسالمت عليها أطراف المعارضة، سواء تلك الإشكالات المتعلقة بالدستور أو التجنيس أو التمييز أو تلك المتعلقة بالشفافية ومعالجة قضايا الفساد ونظام الامتيازات الذي يكاد أن يكتسب شرعية في الممارسة، وأصبح من أهم العوامل التي تفت في عضد المواطن وتتسبب في شيوع القهر الاجتماعي، لكننا نعتقد أن حل كل تلك الإشكالات إنما يتم بواسطة تفعيل أدوات الحوار، ونعني بالحوار هنا مسألتين: أن يكون الحوار بين أطراف الحكم والمعارضة قائما على الشراكة، وهذه مسألة تتحملها الحكومة في المقام الأول والمعارضة مع فئات المجتمع معا، والمسألة الثانية ضرورة انخراط المعارضة في الوسائل المتاحة للتغيير، سواء في البرلمان أو في باقي الأشياء الأخرى، وهذه مسألة تتحملها المعارضة بأطيافها المختلفة، وبالتالي ليست ثمة إشكالية واحدة؛ إنما هناك إشكالات تحتاج إلى الحوار المستمر للوصول إلى توافق بشأنها.
من هنا فإن الحاجة تبدو ملحة لخلق فهم موضوعي لمجريات العمل السياسي بالنسبة الى القيادة السياسية وقوى المعارضة على حد سواء، تماشيا مع كل المتغيرات التي فرضتها مجريات الإصلاح والتحديث والتطوير لكي نستطيع أن نصل ولو بالتدريج لتوافقات تتسم بذلك الأفق المنظور الذي علينا أن، نسعى له جميعا من دون النظر فقط إلى حجم التعارضات القائمة وإسقاطها على خلفيات وإرهاصات سابقة يجب ألا تعطي مساحتها كاملة لإعاقة عملية التطور والتنمية الشاملة، من أجل تجاوز حالات الإرباك السياسي والخروج مجددا إلى آفاق أرحب تحتمل مساحات من الفعل الخلاق نحو وطن أجمل وأرحب
العدد 925 - الجمعة 18 مارس 2005م الموافق 07 صفر 1426هـ