من يقصد سوق البازار في الشرق عليه أن يتعلم فن المقايضة. بهذه النصيحة تسعى الولايات المتحدة وفقا لتقارير صحافية وتحليلات دبلوماسيين أجانب إلى عقد صفقة مع المقاومة العراقية. عملا بمثل شائع في الولايات المتحدة يقول: إذا لا تستطيع أن تهزم عدوك، عانقه. يبدو أن القوة العظمى أدركت بعد سقوط أكثر من 1500 جندي أميركي وعدد يقارب مئة ألف عراقي غالبيتهم من المدنيين منذ أن أعلن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بتاريخ الأول من مايو/ أيار العام 2003 نهاية المعارك الرئيسية، أنها ليست قادرة على هزيمة المقاومة المسلحة التي يقودها أتباع ومؤيدو النظام السابق في العراق، وبالتالي عدم توقع نهاية قريبة لها، تسعى واشنطن الآن إلى التفاوض مع من تسميهم بالمتمردين.
وكان الرئيس العراقي السابق صدام حسين بعث رسالة إلى أعضاء قيادة حزب البعث في يوليو/ تموز العام 2002 جاء فيها: إذا قامت الولايات المتحدة بحملتها العسكرية على العراق فإنها ستنتصر عسكريا نظرا إلى اختلاف موازين القوى بين البلدين. لكن بعد الهزيمة ستنشأ إمكانية باتساع المقاومة العراقية في مختلف المدن والقرى والبقاع الصحراوية وستوجه المقاومة ضربات متلاحقة للغزاة الأميركيين. ما تنبأ به صدام حصل فعلا بعد الغزو بوقت قصير. لم تتوقف نشاطات المقاومة بعد اعتقال صدام في نهاية العام 2003 وانتظار محاكمته مع عدد من أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة. ذلك أن الكثير من جنرالات صدام وضباطه يشرفون على تنسيق هجمات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأميركي. ويعتقد أن الرئيس العراقي السابق قام قبل اعتقاله بتزويد المقاومة بمبالغ كبيرة تقدر بملايين الدولارات وربما مليارات لشن حرب مقاومة طويلة الأمد.
الثابت للخبراء الاستراتيجيين والعسكريين أن القوات الأميركية مستعينة بقوات ائتلاف الحرب التي بدأت تنسحب تدريجيا من العراق مثل تساقط حجارة الدومينو دولة تلو الأخرى آخرها أوكرانيا وإيطاليا، لم تنجح حتى اليوم في حسم الحرب ولم تضعف المقاومة العراقية. ويأخذ الاستراتيجيون في تحليلاتهم على واشنطن أنها ارتكبت خطأ فادحا حين قامت عقب الغزو بتسريح كافة أعضاء القوات المسلحة العراقية وكان عددهم حينذاك سبعمئة ألف جندي كما تم حظر نشاطات حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم وكان عدد أعضائه يصل إلى ثلاثة ملايين. ويشير المراقبون إلى أن هذا القرار دفع بالعسكريين السابقين والبعثيين إلى العمل السري في صفوف المقاومة. حصلت المقاومة على أعداد أخرى من المقاتلين بعد أن تبين لسنة العراق الذين كانوا في عهد النظام السابق يحظون بامتيازات في السلطة، أن الشيعة والأكراد سيتقاسمون النفوذ وأن السنة الخاسر الكبير في الحرب. احتاجت واشنطن إلى زمن طويل حتى اكتشفت خطأها الاستراتيجي الفادح ووفقا لمعلومات تريد الإدارة الأميركية تعديل استراتيجيتها في العراق لهدف نشر الهدوء والاستقرار داخل هذا البلد ويقال إنها تعتزم القيام بمفاوضات مع المقاومة العراقية وعرض عليهم المساعدة في الاندماج بالحياة السياسية في العراق الجديد. في وقت واحد كشفت مجلة "تايم" الأميركية وصحيفة "ذي إندبندنت" البريطانية أن مفاوضين أميركان أجروا مفاوضات في مناسبتين مع قادة مسئولين في المقاومة العراقية في نهاية شهر فبراير الماضي وأن هذه المفاوضات تمت في المنطقة الخضراء الآمنة. حصل الأميركان على دليل من خلال الجولة الأولى من المفاوضات أن قادة المقاومة خدموا في مناصب مهمة في الحكومة والجيش إبان العهد السابق.
ترمي الصفقة المزمع عقدها بين واشنطن والمقاومة العراقية إلى أن يسلم مقاتلو المقاومة أسلحتهم وفي المقابل تساعدهم الولايات المتحدة في الاندماج في العراق الجديد. والهدف الذي تصبو إليه واشنطن هو أن تتوقف هجمات المقاومة التي تودي يوميا بحياة جنود أميركيين. كما تقضي الاستراتيجية الأميركية الجديدة في العراق بمد جسر للبعثيين إلى المشاركة السياسية. وكان غالبية السنة في العراق وكذلك أتباع حزب البعث قد قاطعوا الانتخابات التي جرت لأول مرة منذ الغزو في نهاية يناير الماضي وأسفرت عن فوز كبير للشيعة والأكراد.
الصفقة الأميركية ليست مقابل أي ثمن. إذ تأمل واشنطن في الحصول من قادة المقاومة العراقية على معلومات عن شبكة الإسلاميين المتطرفين في العراق، والذين تحملهم واشنطن مسئولية ارتكاب أعمال قتل بشعة ومجازر. ليس هناك رغبة عند واشنطن بالتفاوض مع قادة شبكة الإسلاميين المتطرفين وتريد عن طريق عقد صفقة مع المقاومة العراقية العمل بتحقيق شرخ بين طرفي المقاومة والسعي إلى عزل الإسلاميين المتطرفين الذين على العكس من المقاومة العراقية يخوضون حربا جهادية على حد قولهم في العراق. ويعتقد المراقبون أنها لن تكون مهمة صعبة ففي العهد السابق كان العراقيون يضطهدون الإسلاميين المتطرفين ولم يكن لهؤلاء فرصة في التغلغل في المجتمع العراقي. وفقا لما نشر في مجلة "تايم" وصحيفة "ذي إندبندنت" طلب قادة المقاومة العراقية من الجانب الأميركي تحديد موعد لانسحاب الجيش الأميركي من العراق. كما يصرون على عفو عام عن الجرائم والمخالفات التي تمت خلال العهد السابق والحصول على ضمانات بعدم فتح ملفات الماضي. غير أن المفاوضات توقفت بين الطرفين حين تم طرح هذه النقطة نظرا إلى صعوبة توفير ضمانات بشأنها.
يتفق المحللون على أن استراتيجية المفاوضات التي تتبعها الولايات المتحدة في العراق الآن تشير في مطلق الأحوال إلى تحول في سياسة واشنطن تجاه العراق. لزمن طويل كانت الإدارة الأميركية تعرب عن موقف متشدد وترفض عقد مفاوضات مع المقاومة العراقية وتصر على ضربها بيد من حديد. ويبدو أن القوى البراغماتية في إدارة بوش نجحت أخيرا في إقناع الرئيس الأميركي بتصوراتها خلافا للصقور الذين حين وضعوا خطط الغزو لم يضعوا خطة لمرحلة ما بعد الغزو. إضافة إلى أنهم زودوا الإدارة الأميركية بمعلومات خاطئة حصلوا عليها من معارضين عراقيين لنظام صدام حسين في مقدمتهم أحمد جلبي. ويشير المراقبون إلى أنه في حال نجاح ترتيب صفقة بين الولايات المتحدة والمقاومة العراقية قد تنجح واشنطن أخيرا في بناء خطوة مهمة نحو تحقيق الوفاق الوطني في العراق وتبدأ بالإعداد لاستراتيجية الانسحاب من هذا البلد.
حتى اليوم يشار إلى المفاوضات بأنها ليست رسمية وليس هناك ما يشير إلى نجاحها. من جهة يرفض الإسلاميون المتطرفون الذين يشكلون الصف الثاني من المقاومة التسليم بصفقة أو اتفاقية صلح ويخططون لمزيد من الهجمات. ومن جهة أخرى يواجه الأميركان معضلة، إذ هناك 38 جماعة سنية تنشط ضد قوات الاحتلال ولا يعرف الأميركان من منها ينوب عن الجميع. لكن هذه مشكلة صغيرة. فالمشكلة الأكبر أن الحكومة العراقية الجديدة المنتخبة التي غالبية أعضائها من الشيعة والأكراد، الذين كانوا لسنوات طويلة على خصومة مريرة مع حزب البعث، لا يرغبون بعقد مفاوضات مع "المتمردين". وأبلغ رئيس المجلس الوطني العراقي أحمد جلبي صحيفة "دي فيلت" الألمانية قبل أيام قوله: لن يطلعنا الأميركان على كل تفاصيل الصفقة. وفي حال التوصل فعلا إلى صفقة ليس هناك ما يجبر الحكومة العراقية الجديدة على تبنيها والتقيد بها. وأبلغ الخبير الأميركي المختص بالإرهاب توماس سانديرسون خدمة "شبيغل أون لاين" أن البعثيين عاشوا وتعودوا في السنوات الماضية على حياة راغدة ومن مصلحتهم وقف مقاومة قوات الاحتلال مجرد حصولهم على ضمانات من الولايات المتحدة بأنهم لن يتعرضوا إلى عقاب وملاحقة. وسيبقى هدفهم على المدى البعيد الإطاحة بالحكومة العراقية وتسلم السلطة لكن هذا أمر صعب جدا لأن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لن يسمحا بعودة نظام البعث. يعتقد ساندرسون الذي يعمل حاليا في مؤسسة بوش في برلين أن عدد أفراد المقاومة يبلغ عشرة آلاف وتأمل الولايات المتحدة الحصول من المقاومة العراقية على معلومات قيمة تكشف عن شبكة الإسلاميين المتطرفين. وأضاف قوله: حتى لو تصورنا أنه ليس هناك تعاون بين البعثيين والإسلاميين المتطرفين إلا أن كل جماعة تعرف شيئا عن نشاطات الجماعة الأخرى مثل العصابات في الشوارع المظلمة في نيويورك أو ريو دي جانيرو. وفقا لما ذكرته مجلة "تايم" فإن واشنطن حصلت على تأكيد باستعداد البعثيين للتعاون معها. هذا الموقف قد يؤدي إلى سفك المزيد من الدماء في العراق. فقد تعهد أبومصعب الزرقاوي الذي وضع الأميركان مكافأة مالية قدرها 25 مليون دولار لمن يرشد إلى مكانه، بمعاقبة من وصفهم بالخونة الذين يمدون أيديهم للعدو
العدد 925 - الجمعة 18 مارس 2005م الموافق 07 صفر 1426هـ