قال رئيس جمعية الصداقة البريطانية البحرينية "مايكل رايس" ان البحرين تحتضن حضارة عريقة تستحق تخصيص الإمكانات الوطنية والدولية من أجل حماية آثارها من خلال تسجيلها في قائمة التراث الإنساني لدى منظمة اليونسكو. جاء ذلك في لقاء شامل تطرق خلاله إلى ارتباطه بالبحرين منذ العام 1962 عندما طلبت منه الحكومة البحرينية المساعدة على تمثيل وترويج البحرين في بريطانيا وأوروبا وكيف تطور ذلك إلى التصاقه بتاريخ البحرين وتأليف الكتب والبحوث عن "معبد باربار" و"مستوطنة سار" وتأسيس اول نواة لمتحف البحرين في العام 1970 بعد محاولات متكررة لإقناع الجهات الرسمية بضرورة الحفاظ على ما تم اكتشافه من حضارة دلمون وآثارها. وتحدث رايس عن معرفته بالمستشار البريطاني تشارلز بليغريف الذي كان يدير الحكومة ما بين 1926 و 1957 وكيف ان مذكراته التفصيلية مازالت لم تنشر، بالاضافة الى قضايا عدة تهم المتابعين للشأن البحريني.
مايكل رايس يرأس جمعية الصداقة البريطانية البحرينية منذ العام 1998 وقبل ذلك كتب البحوث ونشر الكتب الكثيرة عن البحرين وقرأ مذكرات بليغريف التي لم تنشر بعد وكان على صلة قريبة بكثير من القضايا التي تهم البحرينيين، وفيما يأتي نص الحوار:
كيف بدأت علاقاتك بالبحرين، وما الذي اجتذبك إليها؟
- أساسا كنت أعمل لدى حكومة مصر في الخمسينات وكنت حينها أبحث عن شخص يساعدني من أجل تقديم خدمات إلى مصر تتعلق بتاريخها وآثارها وتطوير علاقاتها مع بريطانيا وأوروبا. ولدى بحثي عن الشخص المناسب تعرفت على جيمس بلغريف "ابن المستشار البريطاني تشارلز بليغريف الذي كان يدير البحرين ما بين 1926 و1957" ووظفته في شركتي من أجل العمل مع المصريين.
وعندما تسلم المغفور له الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة الحكم في نهاية ،1961 كان يبحث عن أشخاص لتطوير العلاقات مع بريطانيا، والبحرين كانت تحت الحماية البريطانية آنذاك ولم يكن لديها سفير آنذاك، ووقع الاختيار علي وعلى الشركة التي أديرها من أجل القيام بهذه المهمة. وهكذا في العام 1962 طلبت مني الحكومة البحرينية أن أمثلها في لندن، وخلال هذه الفترة شهدت البحرين طفرتها في الإنشاءات والشركات الكبرى، وكانت لي علاقات مع الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة "ومازالت العلاقة ممتازة" والمرحوم يوسف الشيراوي، وقد عملت معهما من أجل التعريف بالبحرين بصورة تليق بها على مختلف المستويات.
هل كانت هذه العلاقة محدودة بنوع معين من النشاط؟
- لقد تطورت الأمور على مر السنين، فقد نشطت سياسيا وروجت للبحرين اقتصاديا، وتطور الأمر إلى دخولي في مجالات التاريخ والتنقيب في آثار البحرين وتأليف الكتب والبحوث عن حضارة دلمون. فقد اكتشفت أن البحرين لديها حضارة عظيمة توازي في عظمتها جوانب كثيرة من الحضارات الأخرى في العراق ومصر، وهي تختلف عن تلك الحضارات في شخصيتها ومعالمها. لقد اهتممت كثيرا بقلعة البحرين ومعبد باربار ومستوطنة سار وبقية الآثار الثمينة في البحرين. وعندما بدأت البعثات الاستكشافية تنقب كانت هناك الكثير من القطع الأثرية التي تستوجب المحافظة عليها. ولذلك توجهت إلى حكومة البحرين بطلب لتأسيس متحف خاص لهذه الآثار، إلا أن الرد الرسمي لم يكن إيجابيا وظللت أطرح الاقتراح حتى تمت الاستجابة في العام 1970 عندما قرر علماء الآثار عقد اجتماع لهم في البحرين، واقتنعت حينها الجهات الرسمية حينها بالفكرة وتم تأسيس نواة لمتحف البحرين للمحافظة على القطع الأثرية.
لقد كانت القطع مهمة جدا وبحاجة إلى رعاية خاصة وكانت بعض الجهات الرسمية البحرينية تردد ان القطع غير ذات أهمية وكنت فرحا جدا عندما تغيرت وجهة نظرهم قبيل اجتماع علماء الآثار آنذاك.
بما أنك وظفت جيمس بلغريف، فلابد أنك كنت على علاقة بوالده المستشار تشارلز بليغريف، فهل تحدثنا عن المستشار وابنه؟
- نعم، لقد كنت اعرف المستشار لأن أبنه الوحيد "جيمس" كان يعمل في شركتي، والتقيت "تشارلز بليغريف" عدة مرات حتى وفاته في منتصف الستينات من القرن الماضي. كما أن جيمس خلف بعد وفاته في السبعينات ابنتين احداهما توفيت والأخرى تعيش مع زوجها حاليا في "نورفولك" "شرق بريطانيا". وكان جيمس قد بدأ في اصدار كتاب "مرحبا بك في البحرين" في مطلع الخمسينات لوحده، ومن ثم أعاد اصداره لاحقا كجزء من نشاطه في شركتي.
كيف رأيت المستشار البريطاني تشارلز بليغريف الذي كان مسئولا عن إدارة البحرين لفترة 31 عاما حتى مطلع العام 1957؟
- بليغريف شخصية غير سهلة وغامضة المعالم. فقد كان يبدو لي منطويا نوعا ما على نفسه، وربما هذا كان يعود إلى أن علاقته مع الحكومة البريطانية في لندن لم تكن على ما يرام، فقد كان يشتكي منها باستمرار. وكان مخلصا للشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة عندما وظفه مستشارا للحكومة في .1926 الا ان بليغريف لم يتخرج من الإدارة البريطانية في بريطانيا أو في الهند أو في أي من المستعمرات البريطانية آنذاك، وإنما كان شابا يعمل في الجيش البريطاني في فرقة راكبي الجمال "في منطقة مصر والسودان" وحدث أن رأى إعلان وظيفة لم يعرف نوعيتها ولم يعرف البلد الذي يطلب شخصا بصفات معينة. وهكذا جاء إلى البحرين وهو شابا في مقتبل العمر وبدأ يدير شئون بلد وحكومة وتعلم كل شيء بنفسه من دون تدريب مسبق. وربما هذا يفسر كيف تطورت الأمور معه لاحقا وكيف انه كان يشعر بأن الحكومة البريطانية نفسها لم تكن مرتاحة من دوره، وبعد ذلك كانت هناك المطالبات المحلية بازاحته، على رغم انه كان يعتقد بانه أسدى خدمات كبيرة للبحرين ... هذا كله أثر كثيرا عليه شخصيا وعلى كل فرد من عائلته.
يقال ان هناك مذكرات تفصيلية خاصة بالمستشار بليغريف لم يتم نشرها لحد الآن، ما صحة ذلك؟
- نعم بليغريف لديه مذكرات كاملة ماعدا سنة أو سنتين يبدو أنهما مفقودتان من وثائقه الخاصة، وهذه المذكرات تحتوي على معلومات كثيرة ولا يمكن نشرها من دون تحريرها وإعادة صوغ أجزاء منها لكي تصلح للنشر، خصوصا وانها تحتوي على تعليقات مباشرة وتخص اسماء معينة وحوادث كان يراها بشكل معي، وهي كانت مذكرات شخصية لم ينشرها هو بنفسه لعلمه بضرورة تحريرها قبل نشرها.
هل تختلف عن مذكراته التي نشرها؟
- نعم بالتأكيد لأنها تحتوي على تفاصيل يومية لحياته في البحرين وكيف كان يتعامل مع أمور إدارة الدولة ومع الناس والعوائل ومع عائلته، ولذلك لا يمكن نشرها من دون تحريرها.
من الذي يمتلك هذه الوثائق حاليا؟
- بحسب علمي فإن حكومة البحرين لديها نسخة مصورة على "مايكروفيلم" Microfilm وهي تحتفظ حاليا بحقوق الطبع ولا يمكن لاحد نشرها الا برخصة حكومة البحرين. ولكن هناك وثائق أخرى غير هذه المذكرات تم ايداعها في أحد أقسام جامعة كامبريدج وكانت سابقا في قسم متخصص عن دراسات الشرق الأوسط، وحاليا في أحد الأقسام الأخرى بعد إلغاء ذلك القسم.
نعود إلى موضوع الآثار في البحرين، ما أهم كتاب أصدرته عن البحرين وتعتز به؟
- كتابي عن "معبد باربار" الذي يرجع تاريخه الى أكثر من أربعة آلاف سنة، فهذا المعبد فريد من نوعه، وحتى الصخر المستخدم لا يوجد مثيل له في أية منطقة أخرى، وهو يعود إلى فترة دلمون وليست له علاقة بحضارة سومر "ما بين النهرين" كما يعتقد البعض. لقد انشئ في أواخر عهد السومريين وبداية عهد البابليين في العراق، وهو يختلف كليا عما هو موجود من آثار في العراق، ما يدل على أنه كان نتاجا محليا لأهالي دلمون الذين كانوا يعيشون على الساحل الشمالي الشرقي للجزيرة العربية "بضمنها البحرين حاليا" وكانت "الخفجي" و"تاروت" مواقع هامة للدلمونيين قبل ان ينتقلوا بصورة كاملة للبحرين في فترة لاحقة "ربما" .
ما هي خلفية اسم "باربار"؟
- هناك اختلاف في أسباب التسمية، ولكن هناك في اللغة السومرية كلمة قريبة جدا من باربار وهي تعني "معبد"، وهي الأقرب لأن باربار أساسا كانت المركز الديني لحضارة دلمون، وكان الدلمونيون يمارسون طقوسا دينية مختلفة عن غيرهم وهناك انبهار لدى المؤرخين والمثقفين بما اكتشفوه لحد الآن عن هذا المعبد الذي يعتبر ملكا للإنسانية لأنه يفسر لنا جزءا من تاريخ حضاري أسس لحضارات لاحقة.
يبدو لي أن معبد باربار مجرد "خربة" آيلة إلى السقوط هذه الأيام... هل رأيت الموقع حديثا؟
- يؤسفني أن أسمع أن تراثا إنسانيا آيل إلى السقوط، لقد طالبنا من قبل بأن تقام قبة على الموقع لحماية آثار المعبد من آثار الجو "الحرارة والرطوبة" أو دفنه مرة أخرى لكي لا يتعرض للزوال.
لقد كنت أول من ألف كتابا عن "معبد باربار"، ومازلت أشعر بالفخر بأنني خدمت الإنسانية بالكشف عن بعض أسرار هذا الموقع الديني العظيم. انني اعتقد أن المعبد ربما أهم حتى من "قلعة البحرين" فالمعبد يخبرنا بان البحرين كانت تتأثر دائما بالقوى المحيطة بها ولكنها ايضا كانت تحتفظ بشخصيتها المستقلة عن غيرها، فالمعبد به معالم لا توجد في اي معبد آخر في أماكن أخرى ويتبع الفترة ذاتها.
عندما بدأ الدنماركيون ينقبون في المعبد اكتشفنا أن هذا الموقع يمتلك أهمية كبيرة في حضارة دلمون وعندما تمت مقارنة معبد باربار بمعابد السومريين لم تكن هناك مقارنة، لأنه أكثر جودة وأفضل بناء وتصميمه مختلف ويعبر عن نوعية أكثر تطورا من السومريين. أنا من الذين يكتبون عن الآثار في المنطقة "مصر والعراق" ولكن ما وجدته في التصميم وفي الصخور في معابد باربار يوازي جودة ما هو موجود في مصر، وهو أفضل مما هو موجود في العراق. السومريون كانوا يستخدمون الطابوق المصنوع من الطين، بينما معبد باربار مصنوع من صخر منحوت بصورة فنية دقيقة.
ولحد الآن لا أحد يعرف من أين عرف الدلمونيون مهنة نحت وصناعة تلك الصخور، واعتقد أنه ربما كان إبداعا محليا لم يكن مستوردا من خارج البحرين. وانه لمن المؤسف فيما لو اندثر المعبد أو لم تتم المحافظة عليه من خلال بناء "قبة" كما اقترحت ذلك في العام 1983 لأن ما لدى البحرينيين من آثار إنما هو ثروة تاريخية هائلة لا يمكن التقليل من شأنها.
ما الموقع الآخر "غير قلعة البحرين وغير معبد باربار" الذي بحثته وتابعته؟
- "مستوطنة سار" إذ تعتبر شيئا مهما جدا، فهذه كانت مدينة كاملة ذات تنظيم متطور جدا.
والاستكشافات تقول لنا انها كانت المدينة التي تستقبل كل ما تستورده البحرين من خلال تجارتها مع العالم الخارجي ومن ثم يتم توزيعها على كل المناطق والقرى. لقد عملت في المستوطنة منقبة الآثار البريطانية هاريوت كروفرد مع زوجها روبرت في مطلع التسعينات من القرن الماضي ووجدا مدينة أثرية عظيمة التنظيم المدني، بحيث أن قنواتها وطرقها كلها كانت مصممة لتوزيع المؤن والسلع التجارية بصورة سريعة ومنظمة على جميع المناطق والقرى.
وأعتقد أيضا أنه يجب حماية "مستوطنة سار" لأنها تراث إنساني لا يجوز السماح باندثاره.
ما هي خلفية اسم "سار"؟
- مرة أخرى هناك اختلاف على جذور الاسم، وعندما بحثنا لم نجد لها مثيلا في المناطق المجاورة وربما ايضا أن جذوره مثل جذور اسم باربار.
هل انقرض شعب دلمون، أم ان لهم احفادا من البحرينيين حاليا؟
- انني من الذين يجزمون بأن بعض البحرينيين حاليا هم من ابناء الدلمونيين، ولو تم أخذ "حامض نووي" "DNA" من القبور الدلمونية ومقارنتها مع الحامض النووي لمن ترجع أصولهم إلى شمال الجزيرة العربية مثل كثير من الذين يطلق عليهم "البحارنة" حاليا فإنك ستجد أن من ينتمي إلى "مرة" "قالها بالانجليزية "Amorite"" الذين تشير الوثائق البابلية الى نشاطهم في الألفية الثانية قبل الميلاد، هو دلموني لأن الدلمونيين أساسا كانوا ينتمون إلى أمثال هذه القبائل في شمال وشرق الجزيرة العربية، وهؤلاء كانوا يتحدثون لغة "سامية" سابقة للغة العربية.
هناك بلا شك اختلاط في الدم بين قبائل الجزيرة العربية القديمة جدا ولكن هؤلاء هم ذاتهم الذين كانوا يشكلون شعب دلمون في البحرين الحالية وفي منطقة شمال وشرق الجزيرة العربية. ولذلك فإنك تجد أن الناس في هذه المناطق متشابهون بل متناسبون حتى في الاسم، لأنهم أساسا كانوا حضارة محلية قائمة على التجارة والزراعة والتطور في المدن والقنوات المائية والمعابد والقلاع، وكثير من هذه الآثار تعود إلى فترة 2100 و2900 قبل الميلاد.
إنك ستجد أن البحرين كانت دائما تحتضن التأثيرات من دول وحضارات الجوار مثل العراق وفارس، ولكنها تحتفظ بشخصية خاصة بها. والذين يرحلون إلى العيش في البحرين عادة يتأثرون بالثقافة المحلية على رغم انهم يضيفون إليها تأثيرات من الحضارات المجاورة. لقد كانت حضارة دلمون تشمل شرق الجزيرة العربية حتى قرابة 2300 قبل الميلاد عندما انحصرت حضارة دلمون في الجزر البحرينية الحالية. ولكن لو رجعت إلى ما قبل هذا التاريخ ستجد أن "تاروت" في شرق الجزيرة العربية تمثل مركزا مهما لحضارة دلمون.
لماذا انحصرت دلمون في جزر البحرين الحالية منذ الفترة التي تشير إليها؟
- ليس معلوما السبب المباشر، ولكن حدث شيء ما في الجزيرة العربية حينها، ربما حروب وهجمات من القبائل البدوية على حضارة دلمون ادى بهم إلى النزوح إلى جزر البحرين الحالية لأنها كجزيرة محاطة بالمياه تمثل دفاعا طبيعيا لأهاليها آنذاك. ولذلك فإن التنقيب يكشف عن مرحلة جديدة في حضارة دلمون منذ نحو 2300 قبل الميلاد تمثلت بمزيد من الابداعات والتطور الذي لا تراه في المناطق المجاورة.
ما هي المصادر القديمة التي اعتمد عليها المنقبون عندما كتبوا تاريخ البحرين؟
- كثير منها يعود للعهد البابلي ومن خارج البحرين، إذ يبدو أن الوثائق اختفت على مر القرون من البحرين ربما بسبب ما تعرضت له الجزر من قلاقل في فترات تاريخية سابقة. انك ستجد وثائق بابلية تتحدث عن البحرين الدلمونية بشكل باهر حتى فترات لاحقة إلى 1700 قبل الميلاد، إذ تمتعت البحرين باستمرارية حضارية متطورة لمئات ومئات السنين. إنني اعتقد انه كانت هناك وثائق خاصة بالبحرين ولكنها اختفت في زمن من الأزمان. ولأن شعبا مثل دلمون لديه آثار نراها اليوم ولديه نوع من "الاختام" التي تحمل اشارات ورموز متطورة جدا لابد وان لديها وثائق لإدارة شئونها آنذاك ولكن أين ذهبت ومتى اختفت... لا نعلم ذلك.ولذلك فإن المؤرخين اعتمدوا على المصادر البابلية كثيرا للتعرف على تاريخ البحرين السحيق
العدد 925 - الجمعة 18 مارس 2005م الموافق 07 صفر 1426هـ