العدد 924 - الخميس 17 مارس 2005م الموافق 06 صفر 1426هـ

انتكاسة التيار النقلي وعودته في عالمنا المعاصر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد رحيل الشيخ / الرئيس دخلت الفلسفة النقلية في حال جمود. فابن سينا شكل في سياق تطور تلك المدرسة قمة فكرية كان من الصعب تجاوزها بسهولة. وبسبب بلوغ ذاك التيار النقلي "الفلسفي" قمته الثانية إلى جانب القمة الأولى المتمثلة في كتابات الفارابي تشكلت فضاءات فلسفية اعتاشت على أعمال القمتين ولم تنجح الفلسفة النقلية في تطوير أدواتها ودخلت في حالات تكرار ما قاله المعلم الثاني "الفارابي" والشيخ / الرئيس.

هذا الجمود العقلاني الناتج أصلا عن المبالغة في اعتماد المصادر النقلية أعطى فرصة زمنية لتطور الفلسفة الإسلامية المضادة التي أخذت ترسخ مناهجها وأدواتها وتصوغ مشروعها الثقافي - الحضاري المستقل عن هيمنة فكر الترجمات عن اليونان وفارس والهند والكتب القديمة السابقة على فترة الدعوة الجديدة. فالإسلام آنذاك كان هو القوة الجديدة القائدة للتحولات. وبسبب ذاك الزخم الذي أطلقته الرسالة وتدفقه بشرا وثقافة ونظاما في محيط الجزيرة العربية أنتج التفاعل حالات تدافع فكرية أسهمت في بلورة هوية إسلامية للحضارة الجديدة انطلاقا من قاعدتين: أولا، الاعتراف بالآخر ودعوته إلى الحوار والكلمة الحسنة. وثانيا، استيعاب السابق ورفض اللجوء إلى أساليب الإقصاء والإلغاء.

هذا النوع من التعارف الحضاري الذي أطلقته الدعوة الجديدة أعطى فرصة للتفكير وزرع الاطمئنان في قلوب الناس وأكسبهم تلك الميزة التي تقوم على احترام التعدد والتسامح مع المختلف وإفساح المجال أمامه للحوار بحثا عن الحقيقة وسعادة الإنسان واستقراره الاجتماعي وتوازنه النفسي.

الكندي والرازي والجاحظ والنظام وابن الراوندي والفارابي وابن سينا وكل من دخل وخرج من هذا التيار النقلي هم في النهاية نتاج حضارة الإسلام. ولولا تلك الدعوة التي أسست قواعد جديدة في فهم الأول والأخير، والبداية والنهاية، والاختلاف بين زمن الإنسان وزمن الخالق، وتنوع الأزمان بحسب المكان، وتعدد الأزمان واختلافها بين السماء والأرض وغير ذلك من رموز وإشارات وسير لما نشأت تلك الحلقات التي أخذت تفكر في التاريخ وعناصره ومكوناته والإنسان وقيمته وضرورته ونهايته. فالإسلام طرح الأسئلة ولايزال يطرحها حتى يومنا. وبسبب قدرته الدائمة على توليد تلك الأسئلة نجح في تجاوز وقته واضعا مختلف المدارس في حالات دفاع وهجوم. وما نشهده اليوم من اضطرابات ولقاءات وحروب ومؤتمرات ودعوات إلى التصدي لهذا الإسلام على تشكيلاته الفكرية "التفسيرية" المختلفة ليس جديدا. فهذا هو تاريخ الإسلام. فهو أساسا قام على فلسفة "التدافع" التي تولد أسئلة تنقذ الإنسان من "الموات" التاريخي وتعطيه قوة للدفع ومعنى آخر لوجوده وحياته.

الهجمة على الإسلام في يومنا ليست جديدة. الجديد فيها اختلاف أدواتها ولغتها وأهدافها في ظل خلل ساحق في موازين القوى وضعف مريع في حكامه وتردد العلماء في الإقدام على تطوير مناهج التفكير وأدوات التحليل.

هذا هو الجديد. أما الهجمة فهي قديمة ومن يراجع التاريخ يجد محطات كثيرة مشابهة دعت إلى استئصال الإسلام أو ردمه وكلها فشلت لأن قوة الدعوة آنذاك كانت كفيلة دائما بإنتاج قادتها وتنظيم الرد وترتيب أدوات الهجوم المعاكس.

آنذاك لم تكن موازين القوى مختلة بشكل ساحق والحكام تميزوا، على كل العلات، بصفات الشجاعة والمروءة والاستعداد للتضحية والأهم من هؤلاء كان هذا الجيش الدافق الذي لم ينقطع من العلماء والفقهاء والقضاة والأئمة الذين قادوا معارك الفكر والرد والدفاع وصوغ "صون" شخصية حضارية مستقلة ومتميزة.

تيار الفلسفة النقلية من الكندي إلى ابن سينا كان من نتاجات حضارة الإسلام، فهو استفاد من تلك البيئة المنفتحة والحوارية التي أطلقت تناقضاتها وتعارضاتها وتفاعلت وتضاربت و"تدافعت" حتى استقرت في النهاية على مجموعة عناوين كبرى رسمت معالم حضارة لاتزال تمانع وتقاوم حتى يومنا. ونحن في النهاية وحتى لحظتنا ندين بالجميل لتلك الجيوش من "ورثة الأنبياء" التي أعطاها الإسلام وأطلقها للبشرية في سياق تطورها الإنساني العام.

لم يكن التيار النقلي "الفلسفي" وحده في الساحة. فذاك الفضاء الذي انتشر إلى اللامدى، وذاك المدى الذي احتوى كل الثقافات أوجد في النهاية سلسلة قمم من العلماء والفقهاء اصطفت في تيار عام على محطات زمنية لا تنقطع حتى ولو لم تتواصل كلها في حلقات واحدة ومشتركة.

هذا التيار "سلسلة قمم العلماء والفقهاء" ظلمه المستشرقون وحاربوه واتهموه بالنقل ونزعوا عنه صفة العقل والعقلانية لأنه بكل بساطة أعلن وقوفه وإيمانه ودفاعه عن عقيدة توحيدية جامعة استوعبت ما سبقها وتجاوزت عصرها وزمانها.

في تلك الساحة وذاك الفضاء تشكل الخط المضاد الذي أعاد إنتاج فلسفته الإسلامية المستقلة انطلاقا من قواعد الحوار الذي يقوم على مبدأ التعارف وقوة التدافع. وبسبب هذه النزعة الإنسانية - العقلية توصلت تلك الفلسفة الإسلامية إلى صوغ أدواتها المعرفية ومناهجها التفكيرية "التحليل، والتركيب، والتفكيك، والهدم" وهي في مجموعها أعطت تلك الميزة المستقلة عن تشكلات ومنظومات المعرفة المنقولة إلى العربية عن طريق الترجمة.

الجمود الذي أصاب الفلسفة النقلية التي وصلت إلى قمتها الثانية "ابن سينا" بعد عبور قمتها الأولى "الفارابي" لم يكن بسبب تلك الردود التي صاغها العلماء والفقهاء والأئمة والقضاة. فالردود أسهمت في تعطيل اندفاعها وحددت كثيرا من بريقها إلا أن أساس تلاشيها وتفكك منظوماتها يعود إلى كثرة استخدامها للنقل وترددها في الابتكار والتطوير والإضافة التي تميزت بها كتابات الفارابي وابن سينا، الأمر الذي افقدها وظيفتها العملية.

وحين يفقد العقل مخيلته وتتعطل لغة الابتكار تنعدم الرؤية ويدخل الفكر في حقل لا ينتج إلا البذرة نفسها... ومع الأيام وبسبب التكرار تفقد البذرة روحها وتخسر الأرض خصوبتها.

التيار النقلي "فقهاء الفلسفة" أصيب بالشلل وتعطلت آلات تفكيره حين أكثر من النقل وقلل من العقل واعتمد سياسة الكثير من الكتابة والقليل من التفكير. وزاد ضعفه حين تصدى له مجموعة لا تنقطع من جيوش العلماء حملت القلم وقبلت معركة التحدي وتصدت ونجحت في انتزاع استقلالها في حرب ثقافية حضارية طويلة لاتزال بعض آثارها باقية إلى أيامنا.

مقابل التيار النقلي لعب التيار العقلي "فلاسفة الفقه" دوره في إنتاج أدوات ومناهج لم تتوقف عن التطور والابتكار إلا بعد أن نجحت أوروبا في كسر العالم الإسلامي جغرافيا وسياسيا. وهذا الانقلاب الحضاري الثقافي لايزال يواصل ضغطه بالإكراه والقوة والكذب والنفاق إلى عصرنا.

هذا التحدي الجديد يضغط على المسلمين لإعادة تأسيس قواعد الحوار "الاعتراض والتدافع" وأدوات التفكير "مناهج التحليل" التي توقفت عند ساعات العلماء والأئمة الكبار.

الا أن التحدي لا يمكن ان يتولد إذا لم يستعد الإسلام مكانته ويسترد زمام المبادرة لإعادة توليد الحاجة إلى الأسئلة. والحاجة إلى الأسئلة لا تتوقف على مصادر تيار النقل "أخذ ما تقوله الولايات المتحدة وتكراره" بل إعادة إنتاج العقل وصوغ نظرية جامعة تقوم على دراسة الواقع "الحاضر" انطلاقا من قراءة محطات الماضي وتجاربه. وهذا النوع من التطوير الذهني لا يتأسس من دون إعادة اكتشاف العوامل التي أدت إلى هذا التلاشي والتفكك. فإعادة الاكتشاف تساعد على تأطير منهج تفكير لقراءة منظومة معارف تراكمت خلال القرون الخمسة الماضية ولم يبادر العلماء إلى تفكيكها كما سبق وفعل الإمام الغزالي حين كشف تهافت الفلسفة في كتابات الفارابي وابن سينا.

انها معركة ثقافية في حرب حضارية أعلنها بوضوح قادة إدارة البيت الأبيض على الإسلام. والجيل الحالي الذي وقع عليه الاختيار بسبب مصادفات الزمان والمكان عليه أن يكافح ليختار بين التيار النقلي "فقهاء الفلسفة" الذي أصيب بالجمود بعد رحيل الشيخ / الرئيس والتيار العقلي "فلاسفة الفقه" الذي طور أدواته ليؤسس شخصية مستقلة عن الترجمات وليتوج ردوده في سلسلة قمم لم تنقطع من "ورثة الأنبياء

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 924 - الخميس 17 مارس 2005م الموافق 06 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً