أمام لبنان استحقاقات كثيرة وخطيرة من الآن إلى اقتراب موعد الانتخابات في مايو/ أيار المقبل. والاستحقاقات لا تقتصر على القضايا الداخلية كتشكيل حكومة أو الاتفاق على مشروع "قانون" الانتخابات. المشكلة خطيرة وأكبر من تلك التصورات التي ينظر إليها السياسيون اللبنانيون.
النظرة الداخلية "المحلية" للأمور مهمة ولكنها لا تعطي فكرة شاملة عن المخاطر التي تتهدد البلاد في إطار المشروع الإقليمي "التقويضي" الذي تقوده الولايات المتحدة.
وحتى يمكن الانتباه إلى مكامن المخاطر المحدقة بالبلاد لابد من قراءة المتغيرات الدولية والإقليمية التي طرأت على المنطقة منذ توقيع اتفاق الطائف في العام .1989 فالظروف تغيرت والفضاءات الدولية انقلبت والسياسة الأميركية لم تعد محافظة تساير الانماط المتعارف عليها في المنطقة العربية.
كل هذه التحولات تتطلب قراءة متغيرة للوقائع لأن السياسة تتميز دائما بالاختلاف ولا تقف على السكون. فالنظرة السكونية تطرح تلك الأفكار الجامدة التي تتردد في فهم المتغيرات وربط المستجدات بالثوابت.
ما حصل بين توقيع اتفاق الطائف وصدور القرار الدولي 1559 في 2004 ليس بسيطا، وبالتالي فإن كل نظرة تبسيطية للأمور ستؤدي آليا إلى اخطاء مرعبة لأن قواعد اللعبة اختلفت وما كان يصح من تكتيكات في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي لم يعد هناك ما يبرره في مطلع القرن الجاري.
اتفاق الطائف آنذاك كان بالإمكان تجاهل بعض نقاطه والقفز على بعضها وتأجيل البعض الآخر. فقواعد اللعبة الدولية والإقليمية كانت تسمح مثلا بتأجيل تنفيذ تلك الفقرة المتعلقة بالوجود العسكري - الأمني السوري في لبنان من دون استفزاز الولايات المتحدة. ففي تلك الفترة كانت واشنطن مهتمة بأوروبا الشرقية والتداعيات الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره، وكانت أيضا في بداية تخطيطها لغزو المنطقة مستفيدة من دخول قوات صدام أرض الكويت. ووفق منظومة العلاقات تلك كان بإمكان واشنطن ان تغض النظر عن تجاوزات وخروقات هنا وهناك؛ لأن خطتها كانت تقضي آنذاك بترتيب العلاقات مع دول خارجة من المعسكر الاشتراكي وتثبيت اقدامها كحاجة أمنية في منطقة "الشرق الأوسط".
إلى ذلك كان الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني لايزال ساري المفعول، وتل ابيب كانت بدورها ترفض تنفيذ القرار الدولي 425 المتعلق بضرورة انسحابها من لبنان من دون قيد أو شرط. وبسبب الوجود العسكري الإسرائيلي كان من الصعب صدور دعوات لبنانية رسمية أو شعبية تطالب بخروج القوات السورية من البلاد. فالمسألة الوطنية قضت بالامتناع عن مطالبة سورية بالانسحاب في ظل الوجود العسكري الصهيوني.
هذه المعادلة تغيرت بعد اضطرار "إسرائيل" إلى سحب قواتها تحت ضربات المقاومة وتطبيقا للقرار 425 في مطلع صيف العام .2000 فاضطرار الاحتلال الإسرائيلي إلى سحب قواته كشف إلى حد كبير الوجود العسكري السوري في لبنان. ومنذ تلك الفترة اشتدت الضغوط الدولية على لبنان تطالبه بضرورة تنفيذ الجانب المتعلق بسورية في اتفاق الطائف. فتأخير الانسحاب السوري ليس مقصودا وانما جاء بناء على معطيات موضوعية وذاتية. وعندما تغيرت الظروف اشتدت الضغوط بذريعة ان حجة البقاء السوري انعدمت ولم يعد هناك ما يبررها.
حتى العام 2000 لم تكن الضغوط قوية. فهي موجودة ولكنها كانت معزولة ضمن حلقات دولية وعربية ومحلية ضيقة ولا تجد تلك الشعبية في الأوساط اللبنانية نظرا لحاجة البلاد إلى دور أمني سوري يساعد على ضمان السلم الأهلي.
حتى بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي كان بالإمكان التعامل بموضوعية مع حاجات سورية الاستراتيجية لوجودها العسكري في لبنان... إلا أن الضغوط الدولية كانت أقوى من قدرة الدولة وإمكاناتها على الرد أو مواجهة تلك الطلبات الدائمة. واستمر الحال على حاله إلى أن وقعت ضربة 11 سبتمبر/ أيلول 2001 فانقلبت الاجواء الدولية وتغيرت قواعد اللعبة، فلم يعد بالإمكان ان تستمر العلاقات بشروطها القديمة.
الاستحقاقات اللبنانية كثيرة ولكنها خطيرة هذه المرة لأسباب تتصل بمجموعة متغيرات دولية وإقليمية بدأت بأفغانستان والعراق، وتريد الآن زعزعة الاستقرار في المنطقة ليس من أجل "السيادة" و"الإصلاح" و"الاستقلال" وانما لأهداف بعيدة تتجاوز حدود البلد الصغير وأحلامه. قواعد اللعبة كبيرة وشروطها كثيرة وهي بالتأكيد لا يقتصر مجالها الحيوي على مساحة لبنان. وهذا هو المتغير الخطير الذي يجب ان يقرأ اللبنانيون تفصيلاته بدقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 923 - الأربعاء 16 مارس 2005م الموافق 05 صفر 1426هـ