ثمة خلط كبير في المفاهيم، قد يغرق البلاد والعباد في دوامة المردودات السلبية عندما تنطلق شرارة "حمقاء" تخلط الحابل بالنابل فتغضب البعض وتغبط آخرين، وبالتالي تشرع الأبواب أمام تيارات وأيديولوجيات وطوائف راغبة بتحويل مجتمعنا إلى مجرد "رفض الكل للكل" وإلغاء الواحد للآخر عن طريق "التخوين والعمالة" للأجنبي أو المحلي؛ وبتبسيط شديد كتلك التي اعتبرت مسرحية "حب في الفلوجة" خطا أحمرا لعدم المساس بـ "المقاومة" واهانتها، في حين لم يجبر أحد الآخر أن يحضر عروضها في البحرين أو لم يحضر مع وجود مطلق الحرية في ذلك، أو تلك التي اعتبرت السيدالسيستاني "جنرالا أميركيا" أو تلك التي طالبته بدعوة صريحة "إلى الإعلان عن الجهاد ومقاطعة الانتخابات في العراق" وعندما لم يستجب لدعوتها "الأثيرة"، أصبح الرجل الجليل والسيد المحترم بشهادة العقلاء "خائنا بجرة قلم"، أو تلك التي على الضفة الأخرى شحنت بحماسة وحمية ومن دون "فرملة" ضد كاتبة من دون حساب لعواقب وخيمة، ومن دون خشية لتبعات أن يندس أحمق فيرتكب حماقة بالتعرض "اللفظي النابي أو الضرب الجسدي" ضدها أو ضد غيرها يمشي مشيتها على الخط نفسه، لتصبح الضحية فيما بعد "شهيدة رأي" أو ضحية لـ "حرية الرأي والتعبير" أو من ضحايا "الليبرالية الفكرية أو العلمانية" بمفهومها الإنساني الواسع، أو ربما شهيدة لـ "قوى الظلام والظلامية"، بينما في الحقيقة لا هي ذا ولا ذاك.
أعرف أن هذا التمييز بين المقاربات أعلاه سيغضب البعض الطائفي المتشنج والبعض القومي المتعصب الخاسر أصحابه في العراق، ولن أفاجأ إن اعترض واتهمني أحد بالإعجاب المفرط بالنموذج الحضاري الديمقراطي التعددي الحر الذي انتقلت "عدواه" أخيرا إلى العراق الجديد مع هبوب رياح التغيير التي تجتاح العالم، وإيماني الشديد بانتشاره السريع عبر "خيارات" محلية أو خارجية أحلاها حلو المذاق وليس مرا وخصوصا بالنسبة إلى الشعوب في منطقتنا، وذلك لتلاؤمها مع لغة العصر بغض النظر عن المواقف الأيديولوجية والدينية من "الشيطان الأكبر" أو "الامبريالية الأميركية"، كون ما ستأتي بها الرياح "أفضل الأسوأ" وحلم جميل للغاضبين المسالمين على أنظمة الاستبداد، والتغييب الطويل للديمقراطية الحقيقية في وطننا العربي أيضا. الديمقراطية التعددية الحقيقية التي نعنيها حين يتمكن المواطن العربي أن يحكم نفسه بنفسه بواسطة "ورقة صغيرة مسالمة" يضعها في صندوق الاقتراع ليختار من يمثله، ومن ثم تتبادل الشعوب السلطة بشكل دوري سلس وسلمي محفوظ الكرامة بين الفرق والتيارات والأحزاب المتنافسة على خدمة مجتمعاتها.
الاعتراض ومناقشة الآراء والأفكار حق للجميع، فلا يوجد مخلوق على الأرض ثلثاه إلهي وثلثه الأخير من البشر، غير أن هذا الحق ينتهي عند نقطة "شخصنة الأفكار بدل مناقشة أفكار الأشخاص" وعوضا عن ذلك يتعالى صراخ "التخوين أو الوصم بالعمالة" لمن يختلف مع مرئياته وأفكاره، فإذا كان أي كائن كان يختلف مع السيد السيستاني، أو غيره في موضوع العراق ودعوته إلى المشاركة الكثيفة في الانتخابات، أو رفضه في هذه المرحلة المعقدة للوضع العراقي الأساليب العنيفة "الجهادية" لتحريره من المحتلين التي يسميها البعض "مقاومة" والبعض الآخر "إرهابا" وطرفا ثالثا ينعتها بـ "مقارهاب"، ولا ذنب للمؤيد لهذه الأفكار، إذ حققت هذه الدعوة مفاجأة للكثيرين بمساهمة جماهيرية عراقية واسعة، وإن مشاركة نحو 60 في المئة من الشعب هو تأكيد حقيقي أن العراقيين يتوقون للحرية ويرفضون الاستبداد ونمطه في الحكم البائد، فأعلنوا إيمانهم بالديمقراطية ومؤسساتها وبالحرية، ورفضوا رفضا قاطعا الإرهاب والتخريب والجريمة المنظمة وما إلى ذلك من فلسفات "الذبح الجهادي وقطع الرؤوس أو تفخيخ البشر وفرقعتهم بالسيارات"، فهل يعني ذلك أن ثلثي الشعب العراقي الذين تسنت لهم المشاركة ولبوا الدعوة في المناطق الآمنة غير المتوترة يعتبرون من "الخونة والعملاء للأميركان أو غيرهم" كما الاتهامات التي تساق ضد السيد السيستاني ومريديه؟ فقط لأنهم ببساطة صوتوا من أجل الأمن والاستقرار والبناء كما صوتت القوائم الانتخابية الأخرى، وفقط، لأنهم صوتوا لوضع دستور للعراق الجديد والبحث في آلية إعداده وإقراره والاستفتاء عليه، كما لأنهم صوتوا للبحث في المصالحة والحوار الوطني الشامل وضرورة التوافق السياسي للعراق الجريح للخروج من أزمته والعيش الطبيعي لمواطنيه بأقل الخسائر البشرية؟
هل يجوز لكاتب بحريني أو حتى عراقي موضوعي أو من "زمبابوي" إن شئنا، أن يخون 60 في المئة من شعبه أو من شعب آخر ويتهمهم بالعمالة لأنهم يرون ما لا يراه، بينما هم أدرى بـ "مصيبتهم" بحسب مكونات قوامهم السياسي والاجتماعي الفاعل، فيختزل هذا البعض ويعمم ويخلط بفجاجة مقززة هكذا ببساطة، ويصفهم بـ "مجموعات من العملاء والمرتزقة" في مجتمع يعتبره "مؤمنا" أو مجتمع يعتبره "ملحدا وكافرا" بحسب مقاسات الادعاء بالمعرفة المطلقة، أو مزاعم احتكار الركن الأساسي والمدماك الأول في بناء الحقيقة والمعرفة الكاملة المكملة، ويعتبر من اتبع هداه وحده على الصراط المستقيم ومن اختلف معه مصيره نار جهنم وبئس المصير!
ليختلف المختلفون أو ليعترض المعترضون على مشاركة 60 في المئة من الشعب العراقي في الانتخابات أو على دعوات السيد السيستاني إن كانت الصائبة منها أو الخاطئة، وبغض النظر عن الملايين الذين يقلدون سماحته - ولكل إنسان رؤيته في طريقة إخراج المحتل - غير أنه ليس من العدل والحكمة أن يصل هذا الاختلاف إلى نعته بـ "العمالة" من دون قرائن ودليل قاطع لـ "شيكات" موقعة من "سي آي إيه" أو "البنتاغون" باعتباره "جنرالا" في جيشه، وإن وجدت فمكانها الطبيعي لهذا الاتهام قاعات المحاكم وليس التراشق بالكلمات عبر الكتابات الصحافية واستفزاز مشاعر الآخرين من خلال مزايدات وبيع بطولات غير مسئولة، مسترشدة بالمعادلة التي يعرف الصحافيون المبتدئون أسرارها والقائمة على حب الظهور: "اشتمهم لكي يردوا عليك لكي ترد عليهم... فتشتهر!"
العدد 922 - الثلثاء 15 مارس 2005م الموافق 04 صفر 1426هـ