لا أعلم إن كانت السياسة تعني فن الدجل، أم فن الممكن؟ الذي أعلمه أن طريق جهنم محفوف بالنوايا الحسنة. أحيانا يضيق صدر الإنسان للتجاذبات السياسية فيهرب إلى أي "كوفي شوب" أو إلى بحر يشكو له همومه. يذكر التاريخ أن عليا "ع" كان يدفع برأسه في حلقوم البئر ويبكي غربته... يفعل ذلك ليلا على طريقة "إن الأسود لا تئن في النهار".
نظمت الشعر وأنا في السابعة عشرة من العمر، وكنت أكتب شعرا ثوريا وأحيانا غزليا عذريا، وأتذكر أبياتا كتبتها في الحب:
لو آن للعينين بأن تكتبا
وللرموش السود أن تطنبا
لقالت الحب له وحده
ذنبا أتى أو جاءني مذنبا
يا سيدي خط الهوى محنة
ما سلم الخل به صاحبا
نمت على أهدابه ليلة
أسكرت فيها النجم والكوكبا
بنيت قصرا فوق أجفانه
فاق قصور الملك فوق الربى
تلك القصائد جمعتها وفي طور طباعة ديوان... أقول عندما يحزن الإنسان يفر إلى أنيس، وأنيسي هو الشعر والأدب وخصوصا أدب التراجيديا أو الكوميديا السوداء، لهذا أحب كثيرا أدب المنفلوطي في العبرات والنظرات وقصة ماجدولين، بيد أن الماغوط يستهويني كثيرا لأنه الرئة التي يتنفس بها كل شخص يريد أن يهرب من السياسة ثم يقع فيها ولكنه هذه المرة ضاحكا. أحببت اليوم ألا أثقل بالمقال ليكون سريع الهضم فاخترت وقفات سياسية ضاحكة ونحن في نهاية الأسبوع.
يقول الماغوط: "مواطن عربي قتل في إحدى المظاهرات الشعبية إبان الحماسة الوطنية التي اجتاحت المنطقة بعد الاستقلال. يشتاق وهو إلى جوار ربه إلى زوجته وأطفاله وبلاده. فترفرف روحه من الشوق والفضول في كبد السماء ويجري الحوار التالي مع زوجته التي كادت أن تنساه:
"الزوج: أريد أن أسأل عن القضايا الكبرى التي قضيت من أجلها. طمنيني، ما أخبار حركة التحرر العربي؟
الزوجة: عال.
الزوج: وحركة عدم الانحياز؟
الزوجة: ممتازة.
الزوج: والحرية في الوطن العربي؟
الزوجة: بتبوس إيديك.
الزوج: والسجون؟
الزوجة: فارغة.
الزوج: عظيم، عظيم. لأن حلمي الكبير كان الاستفادة من تلك القاعات الرهيبة بعد إخلائها، أما مسارح لرقص الباليه، أو معاهد لتطوير الموسيقى الشرقية، فماذا تستغلونها الآن؟
الزوجة: مازلنا حائرين بين الباليه والموسيقى.
الزوج: عظيم عظيم، وبرامج الإصلاح الزراعي، هل اكتملت؟
الزوجة: إلى حد كبير.
الزوج: إذا، أصبح كل شيء متوافرا ورخيص الثمن بالنسبة إلى الطبقة الكادحة.
الزوجة: طبعا وخصوصا الفاكهة.
الزوج: وبالنسبة إلى المشروعات الاقتصادية الكبرى؟
الزوجة: كالمطر ونحن نقطف ثمارها.
الزوج: إذن الأموال العربية لعبت دورها كما يجب، فنحن أغنياء كما أذكر.
الزوجة: بل أغنى أهل الأرض. ولولا الأموال لانهار الاقتصاد البريطاني والأميركي منذ سنوات.
الزوج: "بعد تفكير" على كل مادامت هذه الأموال فائضة عن حاجة الوطن العربي، بعد أن قضى على الفقر والجهل والأمية والبطالة، فلا مانع من مساعدة الغير. إنها شيم العرب كما تعرفين.
الزوجة: وهل تريد شيئا آخر؟
الزوج: ما أخبار فلسطين؟
الزوجة: ارفع صوتك، إنني لا أسمع.
الزوج: لا أستطيع ذلك، وإلا استيقظت أرواح الشهداء العرب من حوالي.
الزوج: ما أخبار فلسطين؟
الزوجة: ولو، وهل هذا سؤال يسأل بعد هذه السنين؟
الزوج: أعرف ذلك، ولكني مازلت قلقا على اليهود، لا تلقوهم في البحر، خيروهم بين العيش بيننا بسلام أو العودة إلى بلدانهم الأصلية.
الزوجة: تكرم.
الزوج: ولا تقسوا عليهم أثناء التسفير، فالعفو عند المقدرة".
الماغوط أعطانا بأدبه الساخر صورا من حياة العرب، لكنه يقول إن العيب فينا، فهو يقول: "العربي بطبعه يحسد الجالس ولو على كرسي تواليت"... إذا، تضييع القضايا من شيمنا والحسد في الأمور الأخرى كذلك، وماذا عن المعارضين في البرلمانات العربية؟ يقول: "ثم لا يكفي أن كلف الحياة ارتفعت، فإن أسعار الموت ارتفعت أيضا، يا بني حتى القراءة على أرواح الموتى ارتفعت إلى 50 ليرة في ثلاث ليال. وإنني في مثل هذا السن لأتساءل: إذا مات أحدنا نحن الفقراء، فماذا نقرأ على أرواحنا؟ فواتير الكهرباء؟"!
ألا تعتقدون أننا بحاجة إلى قراءة كتب الماغوط الساخرة، أو ضحكات محمود السعدني؟ أليست هي لذيذة لكل من يريد أن يخرج من الخناق السياسي؟
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 922 - الثلثاء 15 مارس 2005م الموافق 04 صفر 1426هـ