كيف ستقرأ الولايات المتحدة تظاهرة المليون المضادة التي قادتها المعارضة اللبنانية في ساحة الشهداء في بيروت؟ واشنطن حتى الآن حائرة بين التفسير الإسرائيلي للقرار الدولي 1559 والتفسير الفرنسي. "إسرائيل" تضغط دوليا وتستخدم نفوذها الخاص في الكونغرس الأميركي لتأكيد أن الخطر الاساسي مصدره حزب الله وان هذا الحزب هو العقبة الرئيسية في وجه ما تدعيه مشروع "السلام" في منطقة "الشرق الأوسط". وفرنسا لاتزال متمسكة بموقفها المعلن وهو أن حزب الله ليس "منظمة إرهابية" ويمكن التفاهم معه كحزب سياسي في حال استكملت دمشق سحب قواتها من لبنان قبل موعد الانتخابات في مايو/ أيار المقبل.
أميركا حتى الآن لاتزال تميل إلى التفسير الفرنسي وترى ان المشكلة هي بوجود القوات السورية وأجهزة مخابراتها في لبنان. إلا أنها في الوقت نفسه بدأت تستمع إلى وجهة نظر "إسرائيل" وخصوصا بعد تمرير مشروع الكونغرس القاضي بتصنيف حزب الله منظمة إرهابية تشكل خطرا على "السلام العالمي". مشروع القرار المذكور ستحاول الدولة العبرية استخدامه للضغط على فرنسا والاتحاد الأوروبي وكذلك ستستخدمه لتمرير خطتها الاستراتيجية التي تتعارض مع ترتيب فقرات القرار 1559 الذي وضع سورية أولا وحزب الله ثانيا والمخيمات الفلسطينية ثالثا. وفي حال حصلت "إسرائيل" من الولايات المتحدة على دعم تفسيرها تكون قلبت المعادلة الداخلية في لبنان وتجاوزت الدور الفرنسي الذي يحترم ترتيب الفقرات كما وردت في المشروع الدولي.
حتى الآن لاتزال واشنطن تعتبر أن المشكلة هي في الوجود العسكري - الأمني السوري في لبنان، وترى أيضا - وهذا جديد في التصريحات الأميركية - عناصر ايجابية في خطوات الانسحاب الجزئية التي بادرت إليها دمشق.
إصرار "إسرائيل" على فرض تفسيرها الخاص لفقرات القرار لا يضعها في موقع متعارض مع فرنسا فقط وانما أيضا يضعها في موقف متصادم مع المعارضة اللبنانية وتفسيرها للقرار المذكور. فالمعارضة ترفض التفسير الصهيوني لظاهرة حزب الله وهي لاتزال حتى الآن تتمسك بموقف واضح ومعلن وهو ان الحزب منظمة سياسية لبنانية وله دوره المهم والخاص في النسيج الاجتماعي الداخلي وتراهن عليه للمشاركة في إعادة بناء الدولة الجديدة.
اختلاف قراءة المعارضة اللبنانية مع القراءة الإسرائيلية يعطي فرصة لإعادة بناء الثقة بين حزب الله والقوى اللبنانية في مختلف أطيافها ومذاهبها ومناطقها وطوائفها ويعيد ترميم تلك الجسور التي أصيبت بأضرار سياسية بعد جريمة الاغتيال والمظاهرات والمظاهرات المضادة. فالتظاهرات المليونية انتهت الآن إلى التعادل. والتوازن في القوى يعني سياسيا إمكان إنتاج تسوية تاريخية تنقذ لبنان من مخطط إسرائيلي يريد تحويل حزب الله إلى شماعة يعلق عليها مجموعة مطالب تتجاوز حدود لبنان وسورية.
الحوار الوطني بين المعارضة اللبنانية وما تمثله وحزب الله وما يمثله يؤسس نقطة التقاء لعقد تسوية تاريخية مطلوبة. وتوجد الكثير من عناصر اللقاء وهي حتى الآن اقوى من تلك الجزئيات التي وترت العلاقات ولم تقوضها. فحزب الله يستطيع الآن الاستفادة من ذاك التعارض بين التفسيرين. فالدولة العبرية ترى ان مشكلة حزب الله تقع في الجانب الإقليمي لدوره وتتذرع بهذه الناحية لإلغاء الحزب وشطبه من المعادلة اللبنانية. والمعارضة ترى ان مشكلتها مع الحزب - إذا وجدت - ليست في ذاك الجانب الإقليمي "مقاومة الاحتلال" وانما في خصوصية دوره المحلي وهي تريد إعادة ترسيم علاقاتها معه ضمن منطق توازن المصالح، وبالتالي فهي لا تعترض على دخوله في لعبة بناء الدولة.
هذا الاختلاف بين التفسيرين الفرنسي والمعارضة اللبنانية من جهة والإسرائيلي من جهة أخرى يعطي إشارات خضراء لإمكان التلاقي بين القوى اللبنانية وحزب الله لرص الصفوف وتحصين الجبهة الداخلية مادام الفرقاء المعنيون يتفقون على تعزيز هذا الهامش في مقاومة المخاطر الإسرائيلية المقبلة.
الوقت لم يفت. وهناك عناصر ايجابية موجودة تساعد على تطوير الممانعة اللبنانية. وفرصة اللقاء توافرت بعد تظاهرة المليون الأخرى. فالجبهة الداخلية أساسية لوقف الخروقات الخارجية. وفي حال التوصل إلى إعادة صوغ ضوابطها السياسية تتراجع كثيرا خطورة الهجمة الأميركية والتحريض الإسرائيلي عليها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 922 - الثلثاء 15 مارس 2005م الموافق 04 صفر 1426هـ