أرض وسيادة وشعب وسلطة، هكذا يعرف علماء السياسة الدولة. إذ تتكون الدولة من العناصر الأربعة، ومن دون واحد منها لا يطلق عليها دولة، وإنما إقليم، قطاع، وغير ذلك من التسميات. السيادة تكون للسلطة، ولكن الشعب هو مصدر تلك السيادة بحسب الفقه الدستور الحديث المعتمد في معظم دساتير العالم. والفقرة (د) من المادة (1) من دستور البحرين تقول: «... السيادة فيه للشعب مصدر السلطات جميعا...» فالسلطة يقوم بأعبائها جمع من الشعب، ولا فرق بين المضطلعين بأعباء السلطة وبين سائر أفراد المجتمع إلا المسئولية الملقاة على عاتقهم في خدمة المجتمع. ومن هنا يقام المجتمع والسلطة، الأرض والسيادة تقاسما وظيفيا وحقوقيا.
بهذا تصنف الدول بالتقدم والتخلف، وبالفقر والغنى، بالبسيطة والمركبة، بالديمقراطية والدكتاتورية، بالجمهورية والملكية، وكل هذه الأصناف تتميز إما بالأمن والاستقرار أو بالفوضى والنزاعات، بسيادة القانون أو بسيادة الأحكام العرفية، باحترام حقوق الإنسان أو باعتماد الإكراه والقمع والعنف ومصادرة الحريات.
والعنف هنا هي المفردة التي يعنى بها هذا المقال، وهي مفردة قد تبدو بسيطة في تركيبها البنائي، ولكن التوغل في سبر دلالاتها يقود إلى تشعب وتشابك وتعدد منهجي معقد، ومتعلقاتها كثيرة، كالعنف الأسري، والعنف الاجتماعي، والعنف القانوني، والعنف السلوكي، والعنف الجسدي، والعنف الجنسي، والعنف السياسي وغيرها كثير.
بهذا التعقيد والتشعب أصبح من غير الممكن التعرض للتفريعات والثنائيات التي تتقابل عند الحديث عن العنف، ولكن مايهمنا هو التعرض لما يشاهد اليوم من عنف في الشارع. فالعنف مرفوض من أي طرف صدر، ولأي مبرر أسند، وهو مرفوض من الناحية النظرية والعملية وبشكل قاطع من كل محب لوطنه. ولكن الوقائع والمشاهدات أثبتت بشكل عملي ممارسة للعنف، وكل طرف يمارس هذا العنف يستند إلى مبررات وأسباب.
السلطة باستعمالها أدوات العنف وتوظيف وسائله، تبرر ذلك بأنها تحافظ على الأمن وتحمي هيبة القانون... ومن الناحية العملية فإن السلطات في أي بلد تحتكر استخدام العنف من أجل صد الاعتداءات الخارجية، ومن مواجهة الإخلال بالنظام. جهات مجتمعية قد ترى أن العنف يوجه ضدها لقمعها، وقد تلجأ إلى تبرير العنف، بأنه يصدر ممن وقع تحت تهديد غياب الأمن الاجتماعي، والمعيشي والوظيفي والصحي والتعليمي والإسكاني والسكاني والحقوقي والمستقبلي والسياسي. ولكن التبرير للعنف ضد المجتمع، أو من قبل المجتمع أمر مرفوض في أي مجتمع ديمقراطي، وذلك لأن السلم الأهلي ضرورة ملازمة للحياة الدستورية.
وعندما نستدعي مفهوم العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو (الفيلسوف والكاتب الفرنسي في الفرن الثامن عشر الميلادي)، وتوماس هوبز (الفيلسوف الإنجليزي في القرن السابع عشر الميلادي)، فإنه سيتضح أن العقد الاجتماعي يتضمن التزام الحاكم والمحكوم مبدأ احترام ثنائية الحقوق والواجبات لتحقيق الأمن من خلال كفالة الحقوق وأداء الواجبات.
ومن هنا يأتي مفهوم الأمن كأحد مصاديق تحقيق إرادة الالتزام بالعقد الجامع بين السلطات والمجتمع، والأمن لا ينحصر في مساحة ضيقة، كأمن الطرق وأمن البلاد، وأمن الأنفس والأرواح والمال العام والخاص، وإنما ينسحب إلى أبعد من ذلك، إذ إن أمن المجتمع الصحي، وأمنه الغذائي وأمنه التعليمي، وأمنه الوظيفي وأمنه في الحصول على سكن، وأمن حريته وأمن كرامته والأمن المعيشي والأمن السكاني، جميعها تندرج في قائمة طويلة تحت عنوان واجبات السلطة تجاه المجتمع، والإخلال بها قد يؤدي إلى ضرر بسيط حينا، وضرر جسيم حينا آخر، يمكن اعتباره - عنفا خفيا - يعاني من تبعاته المجتمع فتعم بسببه الفوضى، ويغيب الأمن ويسود العنف والعنف المضاد.
ولكن هنا نعود ونؤكد على أن السلطة إذا تخفق في الالتزام بأداء واجباتها فإنها تضر بالأمن الاجتماعي، وهي قد تدعي هنا حرصها على توفير أمن الطرق والحياة، غير أن المفارقة هنا هي أنها تسعى لتحقيق أمن ما كان ليغيب لو حققت حالات الأمن الأساسية التي كونت الباب الثالث من مواد دستور البحرين: الحقوق والواجبات العامة.
قد نقرأ تبريرات متذرعة بحفظ النظام، وذلك لمنع هذا الاعتصام أو تلك المسيرة، وهي في واقع الأمر أخفقت في حفظ النظام في جوانب أساسية أخرى تفوق تهديد الاعتصام والمسيرة لأمن المجتمع، فهي قد تكون أخفقت في منع الفساد الإداري، ومنع نهب الثروات، ومنع ممارسات التمييز بين مكونات المجتمع، والقائمة تطول. وهي في واقع الأمر جرائم وممارسات خطيرة تنتج عنها بالضرورة اختلال في العناصر المحددة للتنمية وتهددها بشكل مباشر وغير مباشر. في حين الاعتصام والمسيرة غير المرخصة لا تتعدى مخالفة في القانون وأين المخالفة من الجريمة.
لماذا لا تمارس السلطات العنف لإيقاف السرقات والفساد والسلوكيات المفضية بالتأكيد لإرهاق القدرة المالية والمواردية للدولة، والتي بالحفاظ عليها يحفظ أمن الوطن والمواطن وسيغنينا ذلك عن الحاجة للمسيرات الاعتصامات من الأساس.
فلو افترضنا أن جماعة قدموا أخطارا ولم توافق عليه الجهات المعنية أو لم يقدمو أصلا، فما الذي يمنع القوات الأمنية من إداة المراقبة، فتراقب المسيرة والاعتصام حتى تنتهي المدة الزمينة، مادام القائمون والمشاركون فيه التزمو الحفاظ على الأموال والأرواح، أليس ذلك أجدى وأدعى لتكريس روح الاحترام بين القوات الأمنية وبين أبناء المجتمع؟
لا بد من الإشارة إلى أن الاعتصامات والمسيرات لا تكشف عن ولع شعبي بها أو سلوك ترفي، وإنما تدل على أن هناك مشكلة أو مشكلات، تحتاج إلى علاج بدلا من علاج السلاح والضغط على الزناد. وإن كانت تتحرك ملفاتها في أروقة المهتمين، إلا أن ذلك لا يسلب حق المواطن بالعتبير عن نفسه.
في عصر يوم الجمعة 27 مارس/ آذار الماضي، تم اعتصام منذ الساعة الثالثة وحتى الخامسة مساء، أمام فندق كراون بلازا، وكان المشاركون فيه قد قدموا إخطارا. ولكن كان لرجال الأمن المدني والعسكري حضور مراقب. وتم الاعتصام وانتهى من دون أدنى مشكلة. لما لا ينسحب ذلك حتى على من لا يقدم إخطارا، أو يقدمه ولا تجيزه الجهات المعنية؟.
أليس تركه إلى أن ينتهي دون الجنوح إلى مواجهات أقل ضررا من التطرف في مواجهته وهو في الأساس ليس إلا تعبيرا عن الرأي؟.
إن إيغال السلطة في اعتماد الأسلوب الأمني وأدواته، سينتج لنا مجتمعا يألف العنف ويعتاده، وهذا يعد في علم الاجتماع تنشئة المجتمع تنشأة عنفية، والدولة لا تستقيم بالعنف وإنما بإحلال السلام عبر التفاهم واستخدام وسائل العنف ضد ما يهدد التفاهم بين أطراف الدولة والمجتمع وليس من أجل قمع الحريات. وهذا ينسحب على الجهات المعارضة التي يقع عليها واجب الحفاظ على الأمن وإبعاد الساحة عن العنف من أجل أن تتمكن من إيصال المطال العادلة وتحقيقها. إن العنف في الشارع اليوم عنف سياسي غير مبرر ينتج لنا تداعيات أمنية، ويبعدنا عن تحقيق ما نطمح إليه من مجتمع آمن ومكتمل الحقوق.
إقرأ أيضا لـ "هادي حسن الموسوي"العدد 2400 - الأربعاء 01 أبريل 2009م الموافق 05 ربيع الثاني 1430هـ