يثير موضوع السلام شعورا قويا بالاطمئنان لمنطقة، وإحساسا مفعما بالرضى عند الحديث عنه وحوله. وبقدر ما أيقظت اتفاقا السلام في السودان من أحاسيس مانحة للأمل، إلا أنه عند تفحص قضية العدل والمساواة فيها، أجد أن القلق يساورني إلى حد كبير من تسرع البعض المعارض الى الحكم ببطلانها، واندفاع بعض المؤيدين والمدافعين المتحمسين الذين يظنون أن المناداة بمجتمع عادل تتحقق، بطريقة أو أخرى، بمجرد توقيع اتفاق سلام، رغم أهمية الوصول الى مثل هذا الاتفاق. فنحن في المحصلة النهائية، مجمعون على أن جوهر السلام هو في القدرة على خلق مجتمع عادل. غير أن المعضلة، من خلال التدقيق والقراءة المتأنية لتجاربنا الماضية، تكمن في صعوبة معرفة كيفية نيل هذا المطلب، وبالنظر الى حقيقة معطى طبيعتنا البشرية، علينا أن نفكر مرتين قبل الإقدام على فعل شيء، حتى لا نقع في المحظور، ونلقي بأنفسنا في فخ الإفراط في التفاؤل فنهمله، أو نركن الى نوازع التشاؤم بشأنه فلا نحسنه.
وظني، مع ذلك، هو أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه قد يبدو وكأنه بيان أو كشف حساب، بل أكثر من ذلك، كرسم تطبيقي وتوصيف تجريبي لحال عدم المساواة المستمرة التي تتطلب المعالجة والتقويم وتستعجل التشذيب والتهذيب وليست مجرد وصفة أو "روشتة" سياسية. وما يثير الانتباه، أن غالبية الجانب العملي والتجريبي في الاتفاق يقترح أن الديمقراطية هي تتأتى وتتسق، ليس فقط مع مبدأ الشراكة المزمعة بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان، وإنما وبصورة أكثر أهمية كنهج لتطبيقات المشاركة السياسية الأوسع والمتساوية مع القوى السياسية الأخرى. وإذا ما كانت هذه المساواة شرطا أو نتيجة للديمقراطية فإن هذا أمر متروك للحوار العام غير المقيد، حسبما يستنتجه المرء من قراءة وثائق السلام، وبأي متون زودت وبأي شروح وضحت.
وبشيء من التقدير الخاص، سأتناول موضوع العدالة الاقتصادية، ولكن بزعم أو فرضية أن أفقر إنسان في ظل نظام ديمقراطي هو أفضل بكثير من حال الفقير تحت نير نظام سلطوي دكتاتوري. وبما أن ذلك يعد صحيحا في عالم الواقع، إلا أن اللازمة الضمنية هي هذه، وهي بالقطع كذلك، لذلك نجد ان الدكتاتورية سيئة لأنها غير عادلة وتفتقر إلى أبسط قواعد المساواة وأشراط الإنصاف. وعلى أية حال، تبدو معظم الدكتاتوريات فقيرة، وفقرها يتضح من خلال النظام الاقتصادي الذي لا توجد فيه أية مساواة. ولكننا نجد ان الفقر ميز حالات النظام الديمقراطي التي جربت الحكم في السودان، الشيء الذي يبرز معه ويبرر السؤال التالي: هل الفقر جزء أصيل في سياسات الحكومات السودانية المتعاقبة؟
فهناك دائما أسباب وجيهة للقلق في الديمقراطية، بما في ذلك مدياتها، وطبعا قدرتها على الغوص أبعد من مجرد الوعود السياسية التي تقطعها والترتيبات الإجرائية التي تستتبع ذلك. وقد كانت الفترات القصيرة للنظم الديمقراطية في السودان، وبتقدير عام، حافزا جيدا للناس للتعبير عن أنفسهم وإشهار إرادتهم الحرة. ولكنها جميعا لم تأت بأية نتائج ملموسة، خصوصا في مجال التنمية الاقتصادية. إلا أن تلك التجارب نفسها غير الديمقراطية والعسكرية كانت أقل حظا في حرية التعبير. وحتى أبين جلاء موقفي من هذه المقاربة وبالمقارنة، فإننى استدعي ببساطة مقولة الزعيم البريطاني الفاصل والمشهورة التي وردت في خطبته أمام مجلس العموم في الحادي عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1947: "إن الديمقراطية أسوأ نظام للحكم، ما عدا أنواع الأنظمة الأخرى التي جربت من حين لآخر".
وقد جعلتنا تجارب الدكتاتوريات في العالم نؤمن ان وراء كل مكسب عظيم يحققه فرد هناك جريمة وقعت، ولكن المنافسة هي سيدة الأحكام في النظم الديمقراطية، فهي تقع ولكن بفعل تدافع قدرات المجموع وليس سرقة البعض. وربما تكون كلمة "جريمة" هي مغالاة في الوصف أو مبالغة فيه، غير أن المؤكد هو أن شيئا واحدا ثابتا في التاريخ الإنساني يحدثنا عن أن بعض البشر يسيطرون على الآخرين لمصلحتهم. وهذه هي نظرية الاعتماد المتبادل القديمة التي صادفت قبولا حسنا وشهرة واسعة في أوساط بعض النخب السودانية. أما الآن، فإن تذمر النخب نفسها اتجه الى التظلم من أن الديمقراطية إن أقرت ستأتي لا محالة القوى التقليدية للأحزاب السياسية الطائفية القديمة نفسها وتدعمها على حسابهم.
واليوم، على سبيل المثال، فإن شعار "التهميش" هو الكلمة الفصل في الجدل السياسي، وصار "موضة" ملائمة يمكن لأي سوداني أن يجد الثقة والاطمئنان في التدثر بها. غير أنني، وفي هذا الإطار أوافق على ان نيفاشا ابتدعت فكرة تقاسم الثروة، وهي مدخل لبعض العدل. ولكن سياسيا سودانيا معروفا جادل مستفسرا: بعد أن تقرر أن 50 في المئة ستذهب للجنوب، إلا أن الجنوب مازال يتحدث عن مناطق أخرى مهمشة، فهل يجوز لنا تصور أن يتقدم الجنوب طواعية ببذل جزء من حصته لهؤلاء المهمشين الآخرين اللذين يكثر من الحديث عنهم؟ أعتقد أنه فقط استمزج الفكرة وأراد بها حرية المداعبة لا غير، أو قل هو سؤال بسيط لا يحتاج مني شخصيا لإجابة وذلك لسببين: الأول، ليست لدي إجابة أصلا، والثاني، هو أن إجابتي قد لا تكون في مصلحة السائل، أو غير مقنعة بنتائجها المرصودة لأي طرف من الأطراف.
ولنفترض، مثلا، أن كل الأموال والمزايا وزعت على الجميع بالتساوي في جميع انحاء القطر اليوم، فلربما خلال سنوات قليلة سيلتقي الفقراء والاغنياء مرة اخرى برضى العدل، وينتهي "التهميش"، أليس هذا تصور خيالي مثالي يلزمنا جميعا أن نمتع أنفسنا بحوافزه المعنوية. إن التفكير في التوزيع العادل والمساواة إذن ليس معناه فقط تقسيم الثروة أو البضائع، وإنما علينا، إن كنا جادين حقا، توزيع التعليم والفرص إذ إن ذلك هو جوهر العدل والمساواة.
إن عددا كبيرا جدا من الناس الذين يعيشون تحت ظروف الفقر وجدوا أنه لا مناص من الانتقال إلى المركز، وانهم فعلوا ذلك من أجل الحصول على مستوى حياة أفضل، ويؤمنون بأن المدن، والعاصمة خاصة، يمكنها تحقيق طموحهم هذا. والحقيقة تبدو أن الفقير في المناطق الحضرية هو أفضل حالا من الفقير في الأرياف. ففقراء المدن يمتلكون التلفزيونات والثلاجات وغيرها من وسائل الحياة المدنية الحديثة وتتوافر المياه النظيفة، التي تحظى بها المنازل القريبة من مركز الحكم. تلك هي الحقيقة، ولكن هل بإمكاننا وقف هذه الهجرات فقط بالإصرار على إطعام الناس شعارات تنمية الريف؟
إن حقيقة الوضع تبدو سيئة بما يكفي في المراكز الحضرية ولكنها أكثر سوءا في المناطق الريفية: لماذا؟ هل تأتي ذلك بسبب الثقافة، أم القانون، أم نماذج التنمية المتبعة؟ أحد الأسباب يكمن في إساءة استخدام المال العام في النظام السياسي كله وليس المركز فقط. وتبقى المشكلة الأساسية في الطبيعة البشرية للناس أنفسهم، وهذه مسألة شديدة التعقيد، ولضخامة الإشكالية يصعب قياس النتائج المترتبة عليها، فالشفافية والمحاسبية ستكون أبعد منالا من إمكان التصور والتفكير والمراقبة، ومن ثم ضبطها. لكن علينا ان نبدأ بطريقة ما ومكان ما وان نأمل في إحقاق الأفضل.
ويجب ألا يضن أحد على نفسه بحق الاستفسار، وربما يجوز لأي منا أن يسأل: هل يمكن ان نفكر مليا في وصف النظم الدكتاتورية بعدم العدالة بسبب أنها غير عادلة؟ وآمل ألا تقرأ هذه الحيثية خطأ، وأن لا يبحر أي واحد مع تيار التأويل وينجرف تجاه فكرة أنني أحاول، بأي صيغة أو طريقة ما، الدفاع عن فكرة الدكتاتورية، فمعاذ الله أن أشهر لهذا سيفا، ولكن، وفيما يتعلق بعدالة الديمقراطية، دعونا ألا ننسى أن الأحزاب الديمقراطية التقليدية والصاعدة، وأهل الفكر من النخب السياسية، والآخرين المؤيدين للديمقراطية بغير استحقاقاتها، هم أيضا لم يدعموا، كهدف أسمى، البرامج الاجتماعية بما يكفي. ونريدهم، كمطلب صادق، أن يدافعوا عن العدالة الاجتماعية وأن يحاولوا تعريف "العدالة" بالطريقة التي ربما نفهمها جميعا جلية وصريحة، أو التي تستطيع أن تعود بالنفع على المواطن، حتى وإن تعثر عليه فهم تعقيدات التنظير لها.
فكثير من السياسيين السودانيين سيكونون قلقين لمعرفة أن الغالبية العظمى من الناس تشعر بأن النظام الاقتصادي غير عادل. والحقيقة تقول إنه حقا لا ينصف كل الناس، وجميعنا، الذين تبارينا في حلبة السياسة، نتحمل اللائمة بأقدار مختلفة في ذلك. إن طموحنا كبير جدا وتطلعاتنا عظيمة الآن، وكثير من الآمال في هذا المنعطف مشروعة ومبررة. ويمكننا إدراك النجاح إذا قررنا بشكل جدي بلوغ ذلك، ونستطيع الوصول الى الهدف إذا اعتمدنا طريقة مدروسة وعادلة لاستخدام مصادر ثرواتنا الوفيرة، وتواضعنا على الالتزام الحقيقي بالقيم الأخلاقية، وشيء من الخيال هذه المرة. ولأن مبدأ البحث عن العدالة الاجتماعية عميق الجذور في نظمنا الأخلاقية، كما ننادي ونفاخر.
لهذا، يجب أن لا نستدعى خبراتنا الماضية للتمثل في هذه الفاصلة التاريخية. إذ يمكنها أن تثير نوازع التخاصم القديمة التي تتعطل معها الفضائل الخيرة. فإذا طبقت علينا عدالة القضاء الناجز الآن، مثلا، وتم الحكم على ماضينا وما حصلناه فيه سنكون جميعنا مذنبين. والعدل أن نكون أفضل هذه المرة، وأن نحسن صنعتنا ونتوخى الالتزام بالشروط الممهدة للمساواة، لأن تأخير تحقيق العدالة سيعيدنا ثانية الى نقطة الصفر، وعندها لا يمكن الحديث عن ديمقراطية، إذ إن مطلق العدالة هي أساس الديمقراطية.
وثمة سؤال يلح: أي خطأ سنرتكب هذه المرة إذا لم نفعل؟ وربما يكون للقاضي وحده الشجاعة ليخبرنا، وسيكون قصده في ذلك الوقت متعينا على المطلب الأخلاقي للعدالة الاجتماعية، وربما يكون هو نفسه غير مدرك تماما لحجم الصعوبات العملية لتحقيق هذه العدالة. ولكن إصداره لتعميم لا يتحسس بواعث الذنب فيه ومستويات الإدانة لمجموعنا سيفقد الحكم شرط التوازن ويجعله كمن حكم بتغييب هوية، التي هي تحت التذكية الفعلية مرة أخرى. الشيء الذي يمكن أن يشي بأننا، ومعنا القاضي في هذه الحالة، عائدون ثانية الى ذات الزمن الذي كان فيه مذهب العدل يتبنى الحرب ويعلي قيمتها على السلام، ما يجعلنا نظن أن عقلنا الجمعي قد صدم بخيبات تجاربنا الماضية، فلم يعد لا الخصم ولا الحكم قادرين على التمييز. وهذا ما يعزز ويجسم في مخيلتنا صورة السودان كبلد غير عادل اجتماعيا ونموذج معيب للديمقراطية. حتى ونحن نوقع عقدا سياسيا للعمل من أجلها.
والحقيقة، والمعضلة في آن معا، هي أن البلاد لاتزال تعيش صدمة الحرب والتهديد بالحرب، والجهوية، والقبلية، الأمر الذي يجعل أية محاولة نقد جادة لنمط العلاقات الحاكم هذا وكأنه دعوة للهدم. ولقد آن أوان الجد إن أراد الناس مباشرة السعي نحو المهمة الصعبة في بناء نظام سياسي، واجتماعي، واقتصادي عادل، وهو واجب للصعود شديد الخطر والمزالق، ولكن لابد من تجشمه. وقد كانت عملية وقف الحرب في الجنوب غاية في الصعوبة هي الأخرى، وتلزمنا تضحيات جسام لتحقيق أمل النجاح في وضع حد للحرب في دارفور، وأن لا يكون هنالك تصعيد جديد في الشرق. وعندئذ، فالعدالة والمساواة، ومهما تغايرت واختلفت معانيهما بالنسبة للناس فإن صداهما يبعث شارة لقبلة الاطمئنان، أو بوصلة لوجهة إيجابية للسودان الحديث
العدد 920 - الأحد 13 مارس 2005م الموافق 02 صفر 1426هـ