عائد للتو من مسرحية "أخبار المجنون" تتداعى في ذهني الخواطر والاسئلة والتأملات والمفارقات التي لا تنتهي أيضا، لكن لماذا كتبت الاسم هكذا مباشرة؟ هل افترض أن الجميع سمع بها؟ أنا مخطئ، كان يتعين علي أن أبدأ هكذا: عائد للتو من مسرحية اسمها "أخبار المجنون"، أي بصيغة توجب علي أن أقدم شروحات إضافية واستدراكات مفترضا بطبيعة الحال أنني أتحدث عن أنواع نادرة من الطيور.
عندما كتبت الجملة الاولى، استوقفي السؤال الذي تلاها فكتبته مثلما قرأتموه، محاولة لاشراككم في حوار داخلي ينتابني كلما اردت الكتابة عن المسرح، المجهول دوما والغائب الحاضر بعناد دوما.
على أية حال، إنهم ممثلون وفنانون شبان جيدون وحالمون وبإمكانهم طرح أكثر الموضوعات تعقيدا ومعالجتها برؤى تفوق في نضجها ثرثرات المثقفين وتنظيرهم. الفارق هنا أننا بصدد رؤى جمالية شاملة: للنص المكتوب نفسه والخشبة، ألوان وضوء وظل وشاشات وأداء مؤسلب ولا شيء للصادفة أو الارتجال.
منذ الثمانينات، كان معظم هؤلاء الذين شاهدتهم قبل قليل، صغارا يافعين ممتلئين بالطاقة والاندفاع وشيء غير قليل من الوله. كانوا مسحورين بالمسرح وبداخلهم طاقات تستعد للانفجار في أية لحظة. متحلقين حول كهل يميل للبدانة قليلا، أصلع الرأس الا من شعرات طويلة على الجانبين وله نظرات ذئب... الاستاذ والمريدون إن شئتم.
لن اكتب قصة مليئة بالميلودراما، لكن منذ ذلك الحين وحتى هذا اليوم يقفز السؤال الى لساني كلما شاهدت لهم عرضا وكلما قابلت هذا المتصوف: "من اين تجيء بهؤلاء الغلمان"؟
بدأوا في الثمانينات وكانوا بنظر الكثيرين مثل من يحرث البحر. في التسعينات كانوا يجعلونني اختلق الاعذار وأتبادل المناوبات وألغي المواعيد لكي اسارع الى مشاهدة عروضهم. كانوا مدهشين وهم يوالون كسر المألوف ويخرقون السائد بجدارة وعزم لا يلين، لكن بجمال ايضا.
خرجت من "اخبار المجنون" وأنا استعيد السؤال: في بلدان اخرى، تتقدم النخب من كل نوع صفوف المشاهدين في المسارح. المثقفون والسياسيون والناشطون والمسئولون وطلاب الوجاهة أيضا. يسارعون الى المسرح، لكن هنا الامر مختلف. الجمهور فتي دوما عدا بعض الكهول من أمثالي الذين مازلنا نحيا اوهامنا في المسرح بسعادة غامرة. منذ ثلاث سنوات، لم أشاهد ناشطا سياسيا واحدا في أية مسرحية حضرتها. لم أشاهد مسئولا حكوميا أو نائبا ايضا، لم أشاهد أيا من النجوم الذين تطالعنا بهم يوميا صحفنا كالمقرر المدرسي. لم اشاهد صحافيين أو كتابا، لكنني لم اغضب مثلما كان الحال في تلك الايام عندما كان طوق العزلة يشتد حول هؤلاء الغلمان الرائعين. هل تعرفون لماذا؟ الزمن يا سادة.
فأولئك الصغار الذين كنت اداعبهم في الثمانينات وامازحهم اصبحوا اليوم اصحاب الرؤى الاخاذة والمعالجات الفلسفية والرؤى الجمالية ومن حولهم جيل آخر من اليافعين والشبان. منذ تلك الايام، جيل يلي جيلا يلج فضاء المسرح. يوما ما دونوا شعارا على كتيب صغير لمهرجانهم يقول: "المسرح بوابة هذا الجيل". ليلة كنت اقلب هذا الكتيب واقرأ العبارة، اشعلوا الصالة بالبهجة والحبور وكدنا نحن نقفز من مقاعدنا لنقول جملة او اثنتين لأننا وفي لحظة ما نسينا أننا في مسرحية.
عقدان من الزمان وهؤلاء يشقون طريقهم بصمت ومثابرة ودأب عز نظيره وبجمال ايضا: جمال الحب. حب المسرح وعشقه الذي يدفعهم للامعان في التصوف. "أليس الحب ضربا من التصوف؟".
منذ الثمانينات وهم يتكاثرون، يتدافعون بالمناكب والعواطف والاحلام والطيش على مسارح فقيرة من كل شيء الا "الحب". ينثرون الاسئلة عن الانسان والوجود. هم وحدهم الذين يمدوني بالامل. لا يكلون ولا يداخلهم اليأس. أولئك الصغار صار منهم اليوم مخرجون تصل اصداء اعمالهم الى الخارج. الخارج الضروري للاعتراف بهم في الداخل، قصة بحرينية اخرى. فنانون اعضاء في ملتقيات دولية ومؤسسات دولية للفنون والثقافة والسينما. مثقفون من طراز عال ونادر لم يخرجوا من غياهب الايديولوجيا بل من معاطف الفن. هؤلاء هم صغار الثمانينينات وذاك المتصوف مازال على حاله يوالي الامساك بيد جيل تلو الآخر من اليافعين. مازال سؤالي له كما هو: من اين تجيء بهؤلاء الغلمان؟ ألا ترون العبرة؟
عشت ساعة خارج المألوف والعادي والمبتذل، هذا كاف بحد ذاته، ليلة ليست اعتيادية وغدا نعود الى العادي والمألوف وجاري العادة. نقلب صفحات الصحف لنرى من اعتصم هذه المرة، ومن هاجم من ومن اتهم من ومن سرق ماذا ومن. لماذا وأين وكيف وماذا كانوا يفعلون، تفاصيل مثيرة تكشف للمرة الاولى واخرى مملة تتلى علينا للمرة الألف. ومن سيقدم لنا الوعود ومن سيبرر تأخره عن تنفيذ وعوده. اخبار الناشطين والخاملين، مرئيات واعتراضات وانتقادات وخطط تعدنا بكل شيء الا "الحب"
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 918 - الجمعة 11 مارس 2005م الموافق 30 محرم 1426هـ