تكليف عمر كرامي بتشكيل الحكومة ثانية أعاد إنتاج الأزمة اللبنانية في ضوء تداعيات اغتيال رفيق الحريري وما أسفر عنه من اشتداد الضغوط الدولية على الدولة وسورية.
إلا أن تكليف كرامي يأتي هذه المرة في سياق دولي وإقليمي ومحلي يختلف في تفصيلاته عن الأول. في المرة الأولى قام الاختلاف على محاور واضحة. فالمعارضة كانت تحتج على أسلوب التمديد للرئيس اميل لحود وما أنتجه من تفاعلات بررت صدور القرار الدولي 1559 الذي أعطى فرصة للولايات المتحدة بإعادة ربط لبنان بما تسميه أزمة/ مشروع "الشرق الأوسط". والمعارضة أيضا احتجت على تدخل الأجهزة الأمنية السورية - اللبنانية في السياسة المحلية واستتباعا في قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر.
وبناء على هذه الاعتراضات توافقت شرائح المعارضة على مجموعة نقاط تركزت على رفض دور القوى الأمنية في السياستين الداخلية والانتخابية، ورفض التعامل مع رئيس الجمهورية بسبب عدم احترامه الدستور من دون اكتراث للسلبيات وموقع الدولة في إدارة التوازنات المحلية.
وبسبب "شروط" المعارضة المذكورة اضطر كرامي إلى تشكيل حكومة من لون واحد اعتمدت أساسا على وزراء المناطق ومدن أطراف الجمهورية. فالحكومة تشكلت من غالبية مناطقية تمثلت فيها محافظات الشمال والبقاع والجنوب واستبعدت الكتل السياسية الكبيرة في بيروت وجبل لبنان "مركز المعارضة وثقلها".
هذا الوضع أنتج توازنات سلبية بين المعارضة ومواقعها القوية "بيروت والجبل" والموالاة وانتشارها المناطقي "الشمال والبقاع والجنوب" انتهت - بعد تجاذبات قوية واتهامات متبادلة وصلت إلى حد التخوين - بحادث اغتيال الحريري.
جريمة الاغتيال نقلت الأزمة المحلية إلى طور أعلى فانكشف الدور السوري في لبنان دوليا وأعطى فرصة جديدة للولايات المتحدة بزيادة ضغوطها على دمشق وتهديدها في حال لم تسحب قواتها وأجهزتها بأسرع وقت ممكن. ومحليا ارتفعت الأصوات المطالبة بكشف الجهة التي خططت ونفذت أوسهلت وقصرت في جريمة الاغتيال.
هذا التأزم الذي عبر عن نفسه بزيادة جرعات التدويل والتقليل من جرعات التعريب أعاد إنتاج استقطابات سياسية أسقطت الحكومة وأسست مجموعة نقاط للاعتراض تختلف عن تلك التي شهدتها عملية التكليف الأولى.
إعادة تكليف كرامي هذه المرة تأتي في فضاءات دولية وإقليمية ومحلية مغايرة. فالموضوع الانتخابي تراجع نسبيا لمصلحة محاسبة الأجهزة الأمنية وتحميلها مسئولية التقصير والمطالبة بلجنة تحقيق دولية تساعد على كشف الحقيقة. وموضوع الأجهزة السورية تراجع نسبيا بعد القرار الاستراتيجي الذي أعلنه الرئيس بشار الأسد وإبداء استعداده التعامل بمرونة مع الشق المتعلق بدمشق في القرار الدولي.
هذا الاختلاف النسبي أعاد ترتيب أولويات المعارضة وكذلك أعاد تركيب أولويات الموالاة في سياق مغاير. فالمعارضة الآن بدأت تتجه نحو خفض سقف مطالبها السياسية من دون التنازل عن شروطها المتعلقة بمحاسبة الأجهزة ومقاطعة الرئاسة ومعاقبة كرامي على إهماله واستخفافه بخطورة القرار .1559
مقابل هذا التراجع السياسي تبدو الموالاة في سياق التنازل عن بعض شروطها والتقليل من لغة التهويل والتهديد والتخوين. وجاء التبدل المذكور بعد وقت قصير من نجاح حزب الله في استعادة المبادرة إثر المظاهرة المليونية. فالأمين العام للحزب السيدحسن نصرالله طرح مشروع وفاق وطني يقوم على مبدأ التوازن "لا غالب ولا مغلوب" فاتحا بذلك الطريق إلى تسوية تعتمد فكرة الحوار الوطني المفتوح على كل المطالب وعلى رأسها الكشف عن الحقيقة في جريمة الاغتيال.
إعادة تكليف كرامي أنتجت الأزمة مجددا ولكن عناصرها اختلفت عن الأول. فالاستقطاب السياسي الآن رسم خريطة جديدة لموازين القوى تقوم على معادلة داخلية وخصوصا إذا استمر الضغط الدولي على دمشق وواصلت الأخيرة سحب قواتها في مهلة قصيرة لا تتعدى موعد الانتخابات في مايو/ أيار.
الحوار الوطني الذي دعا نصرالله اليه أهم بكثير من فكرة تشكيل حكومة اتحاد وطني. فالفكرة الأخيرة تنطلق من مبدأ "عفا الله عما مضى" أما دعوة الحوار فهي تنطلق من مبدأ جديد يقوم على مشروع إعادة بناء الدولة بعيدا عن القوى الإقليمية والضغوط الدولية.
هذا على الأقل ما يمكن فهمه من المبدأ العام أما في جزئيات المعادلة فإن الأمر يحتاج إلى وقت. وكما يقال "الشيطان يكمن في التفاصيل"
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 918 - الجمعة 11 مارس 2005م الموافق 30 محرم 1426هـ