حياة العزلة في السجن أسهمت في تطوير الجانب العرفاني في شخصية الشيخ/ الرئيس. فابن سينا الذي تبحر في الالهيات إلى جانب الفلسفة وممارسة مهنة الطب ولعب دورا سياسيا من خلال موقعه الوزاري أنتج شخصية مركبة من سلسلة حلقات متداخلة وجاء السجن ليزيد من شحنة التصوف... والتصوف في شخصية الشيخ/ الرئيس لم يكن المسيطر على حياته فهو متصوف على طريقته، ومتدين على مزاجه. فابن سينا ليس بسيطا ولا يأخذ الموضوعات كما هي ويقلدها، بل كان يضيف عليها من عنده ويعطيها مذاقه الخاص. فالتصوف على درجات وتشتمل مدارسه سلسلة ألوان لا تتحد ولا تمتزج ولكنها في النهاية تشكل أمزجة متفرقة من العبادات والرياضات النفسية والبدنية. وفي هذا المعنى تميزت صوفية ابن سينا من غيره من أهل التصوف، كذلك تميزت شطحاته العرفانية.
في هذا الفضاء الفسيح من حياة العزلة في القلعة/ السجن اشتد الصراع بين الخصوم وأمراء المدن وانتشر الاضطراب من مكان إلى آخر. وبعيدا عن التفصيلات السياسية جاء التناحر الدموي بين أمير اصفهان وأمير همذان لمصلحة ابن سينا. فالقدر لم يتخل عنه حين وقعت الحرب بين اصفهان وهمذان وكانت الغلبة في النهاية لصديقه أمير اصفهان فأطلق سراحه ونقله معه من القلعة/ السجن إلى الوزارة/ السياسة من جديد.
قدر الشيخ/ الرئيس ألا تذله الأيام. أمس كان على خلاف مع أمير همذان واليوم ها هو يعود إلى الوزارة في مدينة جديدة. انتقل ابن سينا إلى أصفهان مغادرا همذان التي أصبحت الآن مدينة تابعة لولاية أميره الجديد.
اختلف تعامل أمير اصفهان مع الشيخ/ الرئيس عن ذاك التعامل الذي لقيه من أمير همذان. فهو الآن يعيش معززا مكرما في بلاط الإمارة. فالأخير أعاد اكتشاف مواهب الشيخ وخبراته وعلومه ومعارفه. وبسبب ذاك الاكتشاف نجح الأمير في تطوير العلاقة مع الوزير محاولا الاستفادة من علومه المنتشرة على أكثر من حقل. فهو طبيبه ومعلمه ووزيره ونديمه والشيخ الذي يحضر مجلسه ويناظر العلماء.
في اصفهان عاد من جديد الرئيس إلى الشيخ. وعند الحدود المشتركة بينهما ظهرت من جديد تلك الرغبة الدفينة "المقموعة في سنوات الطفولة والمراهقة" لتطل برأسها في حياة الشيخ، فالشيخ يناظر العلماء والرئيس يحكم ويفتي في الوزارة وبينهما كانت الشهوات تلعب في مساحة الملذات التي وفرها له أمير اصفهان في بلاطه.
وفي تلك المساحة المظلمة في حياة ابن سينا اتهم الشيخ بالزندقة. فهو الرئيس الزنديق السكير الباحث عن الشهوة واللذة، وهو أيضا الشيخ العارف الزاهد والمتصوف والمتعبد على مزاجه. وهو - وهذا هو المهم - الطبيب الذي اشتهر في مهنته واخترع الآلات التي تسعفه في شفاء الناس ومداواة آلامهم والقضاء على أمراضهم بمزج الأعشاب أو اجراء العمليات الجراحية.
مزج الأعشاب كان مسألة مهمة في مهنة الطبيب الشيخ. فعملية المزج الكيماوي بين العناصر واستخلاص الدواء الشافي منها تشبه كثيرا تفكير الشيخ في مزج روافد الفكر من جهات متعددة وتكوين شخصية خاصة وعقل مفارق يتركب من مجموعة عقول ومعارف. فالمزج في المهنة أسعف كثيرا ابن سينا في مزج عناصر شخصيته المركبة من مجموعة حقول لا تجتمع في شخص واحد الا ذاك الطفل/ الاسطورة.
هذا النوع من الناس يصعب على العامة فهم مزاجهم وتعقيدات شخصيتهم وأسلوبهم الخاص في التعبد والتصوف. فالعامة عادة تميل إلى البساطة "الفطرة" والوضوح وتخشى الخلط والاختلاط والمزج ما بين الدين وغيره أو ما بين التدين وتلك الشطحات العرفانية الممتدة على مساحة واسعة من التناقض بين الزهد والشهوة، والتصوف واللذة.
أمثال ابن سينا تخافه العامة فهو مزيج من اختلاط الشخصيات وفي الآن هو العارف، والأهم هو الطبيب الذي يحتاج إليه الناس ولا غنى عنه في تقديم النصيحة أو محاربة المرض أو التقليل من الأوجاع أو استئصال الأورام وغيرها من سيئات تجتاح الإنسان. والناس ايضا تحب تبسيط الأمور لا تعقيدها "مزجها" وتفضل السجية على التفلسف في الايمان. ونظرا إلى وقوع الشيخ "الرئيس والطبيب" في الضفة الأخرى حصل الالتباس بين عفوية الناس وتقيدات ابن سينا ورموزه وغموضه وتحليلاته وخلطه بين الماء والنار.
قضى الشيخ/ الرئيس سنواته الأخيرة على هذا المنوال في اصفهان. فهو الصديق القريب من الأمير والخصم المطلوب من الناس للفتوى والشفاء وما بينهما واصل ابن سينا مشروعه الفكري "الطبي والفلسفي" في البحث والكتابة والمناظرة.
في تلك الفترة حصلت الكثير من الحوادث كان الشيخ/ الرئيس بعيدا عن تأثيراتها المباشرة بعد ان استقر في بلاط أمير اصفهان. فالأمير كان لا يستغني عنه في حله وترحاله وكان يأخذه معه كنديم يقضي الأوقات الزائدة معه وكطبيب يشرف على معالجته واقتراح الوصفات التي تسعفه في التغلب على أمراضه. فابن سيناء الآن لم يعد ذاك الشاب الباحث عن المعرفة. فالمعرفة حصل عليها. ولم يعد ابن سليلة عريقة تفتش عن السلطة. فالوزارة حصل عليها. وهو لم يعد ذاك الطفل/ الاسطورة التي تثبت مقدرتها يوميا. فهذا التفوق الخاص اعترف له به منذ زمن. ابن سينا الآن هو ابن سينا. فقد تطابق الشخص مع الموضوع كتطابق الشيخ مع الرئيس. فالذات لم تعد تبحث عن ذاتها كذلك الشيخ الضائع بين الهوية والمهنة والموقع والدور. فالذات فارقت شخصها وعادت اليه في شيخ متشعب المعارف ومتعدد المواهب ومتفوق في مختلف الحقول والمجالات.
ابن سينا الآن في مكان ولا مكان وفي زمان ولا زمان وهو أيضا بينهما يجمع في فلسفته وشطحاته بين لعبة المكان ولعبة الزمان. فهو في منطقة وسطى بين المكان والزمان. زمان ابن سينا لم يعد مهما للشيخ ومكان ابن سينا لم يعد مهما للرئيس. فهو وحد بينهما وزاوج ومزج في منهجية تحليلية هي أقرب إلى التفكيك "التشريح" وثم الدمج بين الأعشاب لاستخلاص الدواء. فهو الآن ابن سينا الشيخ/ الرئيس/ الطبيب ينظر الى الأمام منتظرا قدره ووقته. فلكل بداية نهاية. وبعد الولادة هناك الموت.
قعد ابن سينا سنواته الأخيرة في اصفهان ينتظر تلك الساعة. وحين تقبل الساعة لا تدبر. آنذاك أصيب الطبيب بمرض القولنج وشعر بالخطر. فالقدر حين يأتي لا يتأخر ولا يرد فحقن نفسه كما يقال بجرعات دواء صنعها هو من تلك الاعشاب البسيطة التي اكتشف الشيخ سرها الدفين ومنافعها في حال دمجت ومزجت وخلطت عناصرها وموادها.
المرض كان أقوى من الدواء، ولكن قدر ابن سينا ان يموت في همذان لا اصفهان "مدينته الأخيرة". فهو اضطر إلى ان يغادر اصفهان مع أميرها في رحلة إلى همذان. وهناك كانت رحلته الأخيرة وغادر الدنيا بعيدا عن بخارى وقريبا من تلك القلعة التي سجن فيها عقابا على السياسة.
في همذان قضت الاسطورة نحبها ودفن ابن سينا هناك في سنة 824هـ "7301م" بعيدا عن بلاط امارته. الا ان سيرته لم تتوقف. فالأسطورة حلقت من جديد حاملة معها تلك الاكتشافات والاختراعات والكتابات من بلاد فارس إلى بلدان العالم لتنثر دلالاتها وكلماتها في لغات عدة ومختلف الجامعات. فابن سينا لم يعد اسطورة تبحث عن مكان وزمان. انه ما وراء الاسطورة. واسطورته لاتزال تطير الى أيامنا وهي تحلق الى الآن في كل مكان وزمان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 917 - الخميس 10 مارس 2005م الموافق 29 محرم 1426هـ