في إجابته بالندوة الأسبوعية على سؤال عن الموقف الإسلامي من دعوات التغيير الأميركية، حذر السيد محمد حسين فضل الله من أن تبني الكونغرس الأميركي دعوة الرئيس بوش "نشر الديمقراطية" في العالم ليس إلا الوجه الخلفي للمشروع الأميركي الزاحف إلى المنطقة. وأشار إلى أن السفارات الأميركية في العالم التي كانت ولاتزال قلاعا للجاسوسية والتآمر على الحركات الشعبية والتحررية لا يمكن أن تصبح بقدرة قادر منارات للحرية.
وأضاف: "أطلق الإسلام يد الإنسان كي يسعى دائما للتغيير نحو الأفضل... عملية التغيير لابد أن تنطلق من الإنسان نفسه، فردا أو جماعة أو أمة أو قائدا، فالإنسان هو الذي يصنع حركة الاقتصاد، كما يحرك العملية السياسية، كما أن الإنسان يبقى محور التغيير، ولذلك أفسح الإسلام له كي يواصل العمل على تطوير المجتمع وواقعه وفق قاعدة: "من تساوى يوماه فهو مغبون". ولكن الإسلام أراد لعملية التغيير أن تنطلق على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووفق الحديث الشريف: "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"... ولم يرد لعملية التغيير أن تتم من خلال استخدام أساليب العنف، إلا إذا وصلت المسألة إلى أقصى حدود الخطر على الأمة ومصالحها، فعندها يكون استخدام العنف على طريقة العملية الجراحية لإنقاذ الأمة في حركتها العامة.
إن التغيير ينطلق من الإنسان ومن داخل الأمة، ولا يفرض عليها من الخارج، ولا يصدر بمرسوم ملكي أو جمهوري أو ما إلى ذلك، ولابد أن ينطلق من خلال حاجتها الماسة إلى التغيير، لا من خلال مزاج، أو مجاراة لمشروع معاد، أو من خلال عقدة نقص أمام حضارة الآخر، فإن التغيير تحت هذه المؤثرات محكوم بالفشل.
التغيير الديمقراطي الشكلي
والإسلام الذي حض على التغيير نحو الأفضل، حذر مما قد ينطلق به العقل الجمعي من خضوع واستسلام للواقع القائم، أو لفكرة التغيير المفروضة لحسابات لا تتصل بمصلحة الأمة العامة، ولذلك حض على التفكر وعدم الخضوع للوضع القائم نتيجة اختلال موازين القوى، ورفض أن يكون التغيير شكليا وتجميليا، لأن التغيير الشكلي سيؤدي لاحقا إلى انبعاث المشكلة من جديد، ولأن كثيرا من عمليات التغيير التي تنطلق على أساس إحداث ديكور ديمقراطي جديد، كما هو قائم في أكثر من موقع من مواقعنا، ستقودنا إلى الهاوية مجددا. لذلك على الأمة أن تكون حذرة حيال دعوات التغيير ونشر "الديمقراطية" في العالم، والتي تحاول فيها بعض الجهات الغربية، والإدارة الأميركية خصوصا، أن تستغل أية حادثة أو أية حركة في الواقع العربي والإسلامي، لتوحي بأنها مؤشر على تنامي روح الديمقراطية التي تزعم هذه الإدارة بأنها الحاضنة لهذه الروح، لتدخل إلى قلب الحدث، وتتدخل في الشئون الداخلية لهذا البلد أو ذاك، ولتعطي لنفسها الحق في التصرف كما تشاء، على أساس أنها رسول الديمقراطية إلى العالم الثالث. ومن هنا، فإننا نحذر من أن تبني الكونغرس الأميركي لدعوة الرئيس بوش لنشر الديمقراطية في العالم، على أساس تحول سفارات أميركا في العالم إلى "قلاع للحرية" كما يزعمون، ليس إلا الوجه الخلفي للمشروع الأميركي الزاحف إلى المنطقة، والذي تتحدث عنه مراكز الدراسات الأميركية المرتبط بعضها بالإدارة الأميركية أو بالمحافظين الجدد، والذي تثيره أدبياتهم بكل وضوح لتشير إلى استهداف سورية ولبنان بعد العراق، ومن ثم استهداف إيران، بكل ما يعنيه هذا الاستهداف من إخضاع وهيمنة وإسقاط، ومن تحوير وتسويف في عناوين الحرية والديمقراطية.
إن الأمور تبدو أكثر وضوحا، عندما يعمد بوش وغيره من المسئولين الأميركيين إلى تزكية بعض البلدان في المنطقة، والزعم أنها تسير في ركب الديمقراطية والحرية والانفتاح السياسي، مع أن حركة هذه البلدان في هذا المضمار لا يمكن أن توازي حركة إيران أو لبنان أو غيرهما على صعيد الانفتاح والمشاركة والانتخابات والحوار مع الآخر، الأمر الذي يؤكد أن المسألة لا تتصل بالعنوان الديمقراطي للتغيير الذي تحركه الإدارة الأميركية وفق بوصلتها السياسية وبرنامجها للسيطرة والهيمنة، بل بسبل الإثارة التي تكون بمثابة المقدمات السياسية أو حتى الأمنية لهذا المشروع. فنحن نحذر من أن دعوات بوش وإدارته لإنهاء الطغيان في العالم، ونشر الديمقراطية، هي دعوات تستبطن تعميم الطغيان الأميركي، وخصوصا في المنطقة العربية والإسلامية، وإن السفارات الأميركية التي كانت ولاتزال قلاعا للجاسوسية وللتآمر على أنظمة الحكم أو على الحركات الشعبية والتحررية المناهضة للصهيونية وللهيمنة، لا يمكن أن تصبح بقدرة قادر منارات للحرية ولنشر الديمقراطية، لأن ما تفهمه هذه الإدارة من نشر الديمقراطية في منطقتنا، هو الانسجام مع ما تريده "إسرائيل" - شارون، والتطبيع الكامل معها، مع التناسي الكامل لحقوق الفلسطينيين، ولذلك فإن بعض المواقع التي تتحرك فيها عمليات الانتخاب في المنطقة، بتصفيق أميركي تارة، وتلويح بالمزيد أخرى، قد تكون المحطات الجديدة للمشروع الأميركي في مرحلته الثانية.
لا تكونوا حطبا للمحرقة الأميركية
وعلى هذا الأساس، نريد للبنانيين جميعا أن يعرفوا أن أميركا ليست حريصة على مصالحهم وأوضاعهم، بصرف النظر عن الأخطاء التي ارتكبت وترتكب هنا وهناك، ولم تكن ولن تكون الحاضنة لمشروع الدولة الحقيقية في سعي اللبنانيين لبناء البلد على أساس من الحرية والسيادة، فهي التي جعلت البلد رهينة لاحتلال وجرائم "إسرائيل"، وهي التي تسعى هذه الأيام لاستثمار الأوضاع فيه لحساب مشروعها العام في المنطقة، ولذلك فهي تتدخل في التفاصيل، وتتحدث عن رفضها لهيمنة معينة لحساب هيمنة أخرى تريدها لحسابها.
إننا نحذر من وجود سعي لجعل لبنان ساحة اختبار حقيقية للمشروع الأميركي في المنطقة، وربما ساحة انطلاق جديدة لهذا المشروع بالمعنى السياسي، وربما بالمعنى الأمني، ونريد للبنانيين أن يحرصوا على صون وحدتهم بالحوار وبالتعقل، وباختيار الكلمة الأحسن في الخطاب السياسي، حتى لا نكون مرة أخرى حطبا للمشروعات الدولية التي تريدنا أن نتقاتل على العناوين لحسابها، لا أن نقاتل للقضايا الكبرى لحسابنا
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 917 - الخميس 10 مارس 2005م الموافق 29 محرم 1426هـ