أخيرا اتخذت سورية قرارها التاريخي بالانسحاب من لبنان منهية في ذلك عقودا قاربت الثلاثة من التأثير المباشر في الشأن اللبناني وفي غالبية تفاصيل وحيثيات حوادث شهدها لبنان، أو اتصلت به من المحيط الإقليمي والدولي وسط بيئة متعددة المستويات ساعدت سورية على أن تكون ما كانته في لبنان خلال تلك الفترة.
وعلى رغم أن صيغة قرار الانسحاب التي طرحها الرئيس الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب حملت بعض الالتباسات، فقد جرى توضيحها لاحقا في تصريح للوزيرة شعبان بأن الانسحاب إلى الحدود السورية - اللبنانية مقصود به أن يكون في الجانب السوري من الحدود، ثم في دعوة المجلس الأعلى السوري - اللبناني لاجتماع يعقد بعد أقل من يومين على قرار الانسحاب، ما يجعل الانسحاب كاملا وعاجلا طبقا لمحتويات اتفاق الطائف، ومتوافقا مع مضمون القرار الدولي 1559 في آن معا.
والقرار السوري في هذا المحتوى يتوافق مع مطلب المعارضة اللبنانية، ويستجيب لمطالب قطاعات من السوريين أملت بالانسحاب من لبنان، كما يستجيب للدعوات العربية والدولية بانسحاب سوري، كانت تزايدت في اعقاب صدور قرار مجلس الأمن الدولي .1559
وقرار انسحاب سورية من لبنان مثل كل القرارات الأخرى، ستكون له انعكاسات إيجابية وأخرى سلبية في الوسط اللبناني، وبدأت بوادر هذه الانعكاسات في الظهور منذ إعلان الرئيس بشار الأسد قرار الانسحاب أمام مجلس الشعب السوري.
ولأن الانعكاسات الإيجابية للقرار السوري في الداخل اللبناني متروكة للبنانيين ليفرحوا فيها، فقد يكون من المهم التوقف عند بعض الانعكاسات السلبية للتحذير منها بسبب ما يمكن أن تسببه من تداعيات، قد تفسد إيجابيات القرار السوري على اللبنانيين.
إن الأهم في السلبيات التي يتركها القرار السوري على اللبنانيين يتمثل في ثورة لدى بعض أصحاب الرؤوس الحامية، وظهروا في شخصيات وأفراد داخل تيار المعارضة وفي صفوف الموالاة من الأحزاب والجماعات و"الطوائف" اللبنانية، وأطلق أصحاب الرؤوس الحامية تصريحات نارية، تواصلت مباشرة بعد القرار السوري.
البعض في الموالاة، أعتبر أن الخروج السوري، يطلق يدهم في مواجهة المعترضين والمعارضين، كما في مثال ما ذهب اليه وزير البيئة في الحكومة المستقيلة وئام وهاب بالقول، إن الموالاة ستتظاهر، مشيرا إلى أن "الشارع ليس للمعارضة"، وزاد عليه زعيم البعث اللبناني الوزير عاصم قانصوه وهو يقود نحو مئة شخص تظاهروا في البوريفاج غرب بيروت القول "نحن لا نسمح لهؤلاء العملاء أن يكونوا في المقدمة، وسنكسر رؤوسهم شاءوا أم أبوا"، وعكست تصريحات هذا النفر من الموالين أجواء تظاهرات نظمت في مناطق لبنانية عدة، كان هدفها تأكيد وجود الموالين في مواجهة تيار المعارضة، وتأكيد مواقفهم في الحرص على علاقة قوية مع سورية والقيادة السورية.
وكما كان الحال في جانب الموالاة، ظهرت رؤوس حامية في أوساط المعارضة، وإن اتخذت سياقات أخرى في التعبير عن نفسها، كما في التصريحات النارية التي أطلقها العماد عون من منفاه الفرنسي، عندما شكك بالقرار السوري في الانسحاب من لبنان، وأشار بعض المعلقين من رموز المعارضة إلى الانسحاب باعتباره "إكراها" تعرضت له سورية في لبنان، فيما أبدى تجمع المعارضة في ساحة الشهداء وسط بيروت ابتهاجه بالقرار السوري لحظة إعلانه، وكأنه انتصار كبير، فيما هو إجراء طبيعي كان ينبغي القيام به منذ سنوات طويلة.
وبطبيعة الحال، فإن الرؤوس الحامية وخطاباتها أيا كان موقعها، لا تصب في المصلحة اللبنانية، وهي لا تصب ايضا في المصلحة السورية. ذلك انها تسهم في توتير الواقع اللبناني وتصعيد الصراعات السياسية داخله في وقت يحتاج فيه لبنان إلى مستوى أعلى من التهدئة وبرودة الرؤوس ليواجه الاستحقاقات المطروحة وفي مقدمتها أمران يجمع اللبنانيون على اهميتهما - على رغم اختلاف النظرات - أولهما استكمال التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والثاني تشكيل حكومة لبنانية يكون بين مهماتها التحضير لانتخابات عامة، تعيد رسم التوافقات السياسية في الدولة والمجتمع اللبنانيين.
وتتعارض خطابات اصحاب الرؤوس الحامية من اللبنانيين مع المصلحة السورية، إذ إن استعادة لبنان لوضعه الطبيعي هو مصلحة سورية، يتحقق من خلالها أمران مهمان، أولهما تنقية الأجواء من ترسبات المرحلة الماضية، والانطلاق نحو مرحلة جديدة في علاقات سورية - لبنانية على المستويين الرسمي والشعبي، وهي علاقات لا فكاك منها محكومة بالجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة، وهو ما يمثل اعترافا مشتركا لكل الأطراف في لبنان وسورية.
والأمر الثاني، ان من شأن استقرار الوضع في لبنان تخفيف الضغط عن سورية، والتي ستواجه في المرحلة المقبلة تصعيدا في الضغوط الأميركية - الإسرائيلية في الموضوعين العراقي والفلسطيني على الأقل، كما انه سيجري استغلال أية تطورات سلبية في الواقع اللبناني وربطها بسورية حتى لو كانت الأخيرة بعيدة كل البعد عن تلك التطورات.
لقد حققت المعارضة اللبنانية مطلبها في انسحاب سوري من لبنان، وهذا يدفعها كما أعلن الكثير من قادتها إلى البحث عن أفضل العلاقات مع سورية، ينبغي أن يسبقه وقف التصريحات وإعلان المواقف والشعارات المعادية لسورية، ويدفعها إلى البحث في وقف التعديات التي جرت ضد العمال السوريين. فيما يجب على الموالاة، أن تعيد ترتيب المعطيات السياسية في لبنان ومحيطه، والتي دفعت سورية لإخراج قواتها من لبنان، وإذا كانت حريصة فعلا على علاقة قوية مع سورية، فإن أول خطواتها التوقف عن الكلام الذي يوجج الوضع اللبناني ويساعد في تعميق الانقسامات التي تباعد بين قطاعات من اللبنانيين وسورية، وتجعل العلاقات السورية - اللبنانية في دائرة الحرب الباردة
العدد 916 - الأربعاء 09 مارس 2005م الموافق 28 محرم 1426هـ