على رغم أن التحالفات والقوائم الانتخابية ممنوعة بقوة القانون في الانتخابات البلدية السعودية، إلا أن هذه الانتخابات كانت مسرحا لتعميق الشرخ الطائفي بين المواطنين في المملكة العربية السعودية، وخصوصا في المنطقة الشرقية التي اختتمت المرحلة الثانية للانتخابات البلدية يوم الخميس الماضي الثالث من الشهر الجاري، ولست أدري على وجه الدقة ما أسباب هذا التحشيد الطائفي البغيض الذي يكاد أن يتحول إلى داء ليس له دواء؟ لقد عايشت هذه الانتخابات بشكل مباشر، وتفاعلت معها منذ الإعلان الأول عنها قبل أكثر من سنة، وتحديدا في أكتوبر/ تشرين الأول ،2003 وكنت ممن ينادون بأن تكون هذه الانتخابات فرصة تاريخية للتواصل بين الجميع في المملكة، تواصل بين التيارات السياسية، تواصل بين التيارات الاجتماعية والفكرية، تواصل بين المواطنين من المذاهب الإسلامية المختلفة وتواصل بين جميع هؤلاء والسلطات السعودية.
وكنت أعتقد جازما بأن الانتخابات يمكن أن تكون هذا الإطار الذي يلغي الحساسيات أيا كان نوعها، لكنني أعترف اليوم أن كثيرا من هذه الاعتقادات لم يحن الوقت المناسب لتحولها إلى حقائق على أرض الواقع بعد، بل على العكس من ذلك فإن لجوء الممسكين بتلابيب القرار لدى أبناء المذهبين إلى تشكيل قوائم انتخابية تعتمد المعيار الطائفي أولا وأخيرا في الترشح للانتخابات البلدية في المنطقة الشرقية قد ساهم في تأجيج النزعة الطائفية وأمدها برصيد جديد سيساعد في استمرارها قوية لسنوات مقبلة.
ولست هنا ممن ينتقدون أو يعيبون فكرة التحالفات بصورة عامة، لأن العمل السياسي وخصوصا عندما يتم تأطيره في الشكل الانتخابي، هو بحاجة فعلية لصوغ التحالفات ونسج التفاهمات التي من شأنها أن تحفظ حقوق الجميع وتوازن بين القوى السياسية والمجتمعية بشكل يعزز من الترابط الاجتماعي. لكن موعد الانتخابات يمكن أن يتحول إلى يوم أسود في تاريخ أية أمة لا تستطيع أن تقرأ هذا الحدث بشكل صحيح، ومن ثم تفشل في التعاطي معه بالأسلوب المناسب الذي يمهد الطريق لتحولات جوهرية تأخذ في اعتبارها أهمية ضمان حقوق وواجبات الأقليات قبل الأكثريات، كما تركز على حقوق المواطن باعتباره مواطنا قبل أن تنظر له باعتباره من أبناء هذا المذهب أو ذاك.
ويبدو أن الحكومة السعودية كانت متيقظة لهذا الأمر جيدا، لذلك سارعت إلى منع التحالفات رسميا في الانتخابات العامة الأولى التي تجري في البلاد، لكن الأمور لم تأت كما تشتهي السلطات السعودية، ذلك أن مراكز النفوذ والقوى المهيمنة على سلطة القرار الشعبي لدى الطائفتين الرئيسيتين كان لها رأي آخر، إذ نصبت نفسها مدافعا عن قلاع المصالح الطائفية التي تمثلها، وتتمسك بها حتى النفس الأخير.
وأحسب أن السلطات السعودية مدركة تماما لما يحدث، وهي لذلك عمدت إلى التدرج في التحول الديمقراطي فأبقت المجالس البلدية بالمناصفة بين التعيين وبين الانتخاب، حتى تستطيع الموازنة في تشكيلة المجالس البلدية بين جميع التيارات السياسية والدينية، ريثما يستوعب المجتمع وقواه الفاعلة روح القانون وأهمية التواصل بين جميع فئات المجتمع ومكوناته.
وإذا كان من المناسب، بل من المهم تأكيد أن الديمقراطية لا تترعرع إلا في أجواء الحرية، فإن ذلك لا يعني أبدا عدم الحاجة إلى التدرج في ممارسة الحرية لأننا في هذا الجزء من العالم قد اعتدنا وتعودنا سياسة الإقصاء والإبعاد حتى صار من غير المتيسر على صناع القرار الاجتماعي المعجون بكثير من البهارات الطائفية والمذهبية أن يتجاوزوا مصالحهم الضيقة ومصطلحاتهم العتيقة والكريهة في كثير من الأحيان.
لقد آن الأوان لأن يتم كنس بعض المصطلحات البائدة من قبيل "الرافضة، الوهابية، السلفية، اليامية، الإسماعيلية"، وليس في ذلك تقليل من شأن أحد، أو رفع لمكانة أحد، إنما إعلاء لراية الوطن الواحد، وتكريس لروابط الدم والدين والعقيدة، ومن ثم دعم ومساندة وتشجيع السنة الحميدة التي تسعى الحكومة السعودية لسنها وبثها بين المواطنين، والتي يمكن تلخيصها في مفهوم "الدين لله والوطن للجميع".
خلال هذه الانتخابات البلدية في المنطقة الشرقية، كانت هناك محاولات جادة للخروج من شرنقة الطائفية، عبر تأكيد أحقية الجميع في التمثل داخل المجالس البلدية بعيدا عن سيطرة اللون الواحد، وكان التفاهم بهذا الشأن قاب قوسين أو أدنى من التحقق، لكن لغة الفتاوى الدينية تغلبت على لغة التوافق الوطني، وهكذا صارت الانتخابات بمثابة لعبة شد الحبل، كل طرف يريد أن يحقق نصرا كاسحا، وكانت العقدة تزداد تعقيدا كلما شد أحد الأطراف الحبل إلى جانبه.
إن هذا الزمن وهذه الظروف التي نعيشها تحتم على الجميع أن يغلب لغة الاعتدال على تصرفاته ويصبغ بها توجهاته وآراءه، ومن ثم يسعى إلى التقارب مع الآخر بعيدا عن لغة العنتريات والتزمت المذهبي، وبعيدا عن تعميق وترسيخ روح الأنانية والاستفراد والتفرد وقمع الرأي الآخر، إذ إن سيطرة اللون الواحد على مفاصل القرار، تحمل هذا الطرف مسئولية اتخاذ القرار، لكنها لا تعطيه الصلاحية الكاملة لكي يتكلم باسم الجميع.
إنها طريق شائكة جدا، وليس من السهل التحرك في هذه المنطقة المحفوفة بالحراب والسكاكين، المليئة بالمتربصين وأصحاب النوايا غير الحسنة، وأحسب أن السير في هذا الطريق سيفتح النار على سالكيه من الجانبين، لكنني من واقع التجربة، أعرف أن هناك من يسير على رؤوس الأسنة بين الشيعة والسنة، في مسعى مخلص للتقريب بين أبناء الطائفتين الكريمتين، تماما كما أن هناك من يسعى حثيثا لزيادة الهوة والتفريق بينهما أكثر فأكثر.
هي معركة طويلة إذا، يخوضها أطراف وأفراد متباينون في الأهداف والرؤى، كل له أجندته الخاصة التي قد تكون مجهولة لدى الآخرين، لكن هذه الأجندات ستظهر للعلن سيعرفها عامة الناس في القريب العاجل، ذلك أن العملية الانتخابية تصنع استحقاقات كبيرة بحجم الوطن ينتظر الجميع إنجازها، ومن دون أدنى شك فإن من يتقوقعون في شرنقة الطائفة، ينامون تحت عباءتها ليلا ويستظلون بها عن أشعة الشمس صباحا سيجدون أنفسهم بعيدين كل البعد عن تحقيق آمال الناس وتطلعاتهم العريضة.
لكن من يحملون الحلم بالتطوير وتحديث الخدمات التي يحتاجها الوطن والمواطن كي تنتعش برامج التنمية وتزداد قدرة الوطن على استيعاب المشروعات الاستثمارية والاقتصادية التي توفر بدورها فرص عمل مريحة لأبناء البلاد، وتساهم في خلق المزيد من الترابط الاجتماعي والتكافل الأهلي، من دون النظر إلى الأمور بعين طائفية ضيقة، هم الذين يستطيعون أن يقدموا البديل المناسب لتعزيز فرص التعاضد والتآخي بين أبناء الشعب الواحد.
ولعله من المفيد جدا الإشارة إلى أن هذا الأمر لا يتعلق بالمملكة العربية السعودية فقط، بل هو واقع تعيشه كل الدول العربية والإسلامية التي تعيش التعددية المذهبية والدينية والاثنية والعرقية، لذلك فإننا ندعو إلى تغيير حقيقي في المفاهيم السائدة التي تساهم إلى حد بعيد في توريث الخلاف الطائفي وزيادة حدته جيلا إثر جيل.
وهنا لابد من القول بأن قدر الجميع في هذه المنطقة أن يتعايشوا سويا، وأن يوقفوا هدر الطاقات الهائلة في الخلافات التي لا تنفع، ومن ثم يتجهون جميعا لبذل المزيد من الجهود والطاقات للتواصل الجاد والعمل الحثيث لخلق المواطنة المتساوية الحقوق والواجبات، المواطنة التي تنتج مواطنين أكفاء متحابين متعاونين، لا تفرق بينهم المذاهب ولا يختلفون لمجرد تباين في اللون أو العرق أو اللهجة أو الجنس أو الوضع الاجتماعي، ذلك أن الأوطان لا يمكن لها أن تنبني ويشتد عودها، إن لم يكن أساسها متينا وقاعدتها صلبة ومتماسكة.
أجل... نحن نريد وطنا واحدا للجميع، يساهم الجميع في بنائه وتحمل مسئولياته، فتعالوا بنا نعزز من أحلام الوطن المتحد المبني على التعددية واحترام الآخر
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 916 - الأربعاء 09 مارس 2005م الموافق 28 محرم 1426هـ