يبدو من ظواهر الأمور والأنباء المعلنة حتى الآن أن الولايات المتحدة لم تعدل من أولويات القرار الدولي رقم . 1559 فالولايات المتحدة راقبت تظاهرة المليون "وفاء لسورية" عن كثب وقرأت عنوانها. فهي تعاطت معها كأنها "رسالة سورية" وليست لبنانية وردت فورا عليها بتجديد تأكيد موقفها المعلن وهو انسحاب القوات السورية وأجهزتها من كامل الأراضي اللبنانية وبأسرع وقت ممكن وقبل انتخابات مايو/ أيار المقبل.
تظاهرة المليون كما تبدو الأمور من ظواهرها لم تقنع واشنطن وتضغط عليها لإعادة النظر في برنامج أولوياتها وخصوصا تلك الفقرات ذات الصلة بالشأنين اللبناني والفلسطيني. بل هناك من يلمح في الإدارة الأميركية إلى أن البيت الأبيض أصبح أكثر تشددا والتظاهرة زادت من أدوات الضغط ورفعت درجة حرارة الإسراع في التنفيذ.
الموقف الأميركي المعلن ليس بالضرورة هو الصحيح. فدائما هناك احتمالات للتغيير وخصوصا أن حليفها الدائم لايزال يضغط ويناور مؤكدا أولوية حزب الله. فالكلام الإسرائيلي الذي صدر وسع من دائرة الاتهامات وأدخل عناصر جديدة إقليمية وإيرانية في الموضوع. فالدولة العبرية تريد أن تقول إن التظاهرة ليست لبنانية وهي تجمع لعناصر مختلفة من جهات كثيرة وبالتالي فإن المشكلة هي في حزب الله وهو نقطة الاعتراض الرئيسية على القرار الدولي.
حتى الآن تبدو الولايات المتحدة غير مقتنعة بالتفسير الإسرائيلي لتظاهرة المليون، وتميل إلى الموقف الفرنسي الذي يرى أن الأولوية للوجود السوري بينما يمكن حل مشكلة حزب الله لاحقا من خلال ترتيبات لبنانية داخلية.
مسألة الأولويات حتى الآن لم تتضح وربما تحتاج إلى وقت بانتظار ما ستسفر عنه جولة المبعوث الدولي تيري رود لارسن الذي يتوقع أن يزور بيروت ودمشق للبحث في إمكانات التوفيق بين اتفاق الطائف والقرار .1559 إذا نجح لارسن في تحديد صيغة جديدة أو توضيح آليات التطبيق من دون تعارض بين الاتفاق والقرار تكون الأمم المتحدة "التدويل" مددت فترة سياسة التعريب "الطائف". وإذا فشل فمعنى ذلك أن الأمور ستعود إلى التأزم بالارتداد مجددا إلى رفع هراوة .1559
المشكلة في مهمة لارسن أن القرار والاتفاق يتعارضان في الجوهر ولا يتفقان. فمن ناحية يعطي الطائف الوجود السوري فرصة زمنية معقولة للانسحاب العسكري، بينما القرار الدولي غير واضح في هذه المسألة بل إنه لا يشير إلى فترة محددة. ومن جهة يعتبر الطائف حزب الله حركة مقاومة بينما يصنفه القرار "ميليشيا مسلحة". كذلك يتعاطى الطائف مع الوجود الفلسطيني بصفته مسألة غير منفصلة عن القضية الأم وحق العودة، بينما يرى القرار المخيمات الفلسطينية مجرد ميليشيات مسلحة. المشكلة إذا كبيرة ومعقدة وهناك اختلافات جوهرية بين الطائف والقرار ومن الصعب الجمع بينهما لأن الاتفاق يريد نزع صواعق التفجير، بينما أريد من القرار تفجير الصواعق وتفخيخ الاستقرار اللبناني.
1559 مشروع فتنة سياسية وهو يشبه "قنبلة عنقودية" ألقيت فوق لبنان مستفيدا من التفاعلات الداخلية لمسألة التمديد الرئاسي لتمرير خطة تهدف إلى تقويض التوازنات التي استقر عليها البلد الصغير. فالقرار مثله مثل السياسة الأميركية فهو يهدف إلى تمرير مشروع كبير من خلال انتهاز الفرص وطرح بعض الشعارات. فالولايات المتحدة لم تحتل العراق مثلا من أجل مكافحة الاستبداد ونشر الديمقراطية وتحقيق الإصلاح وإنما أرادت من الاحتلال تحويله إلى قاعدة انطلاق عسكرية لزعزعة استقرار دول الجوار لمصلحة أمن "إسرائيل" وتأمين أنابيب النفط وإعادة تشكيل خريطة "الشرق الأوسط".
كذلك فإن أهداف واشنطن من بقية حلقات السلسلة لا ترمي إلى ضمان الحرية والاستقلال والسيادة أو ما يسمى "الشفافية". فهذه الهموم تأتي في المرتبة الأخيرة ولكنها تستغلها لتغطية هجومها التقويضي. وهذا ما يمكن فهمه من ضغوطها على سورية في لبنان. فالبلد الصغير هو الحلقة الأضعف ومنه يمكن أن تنطلق متذرعة بالوجود العسكري. وهو أمر انتبهت إليه قيادة دمشق وقررت الانسحاب حتى لا تعطي ذريعة لتل أبيب في افتعال معركة عسكرية ترى أن موازينها تصب في مصلحتها ولصالحها.
حتى الآن - كما تبدو الأمور - فإن واشنطن لم تقرأ مظاهرة المليون كرسالة لبنانية وإنما نظرت إليها كرسالة سياسية موجهة من سورية. وهذا ما يفسر موقفها السلبي وتمسكها بمنهجية القرار 1559 الذي هو في النهاية مجموعة فقرات تربط كتلة من الأزمات في إطار واحد ووفق تسلسل هرمي يبدأ من سورية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 916 - الأربعاء 09 مارس 2005م الموافق 28 محرم 1426هـ