هنالك مدن تعلمك الحب، تأخذ بيدك الى حيث مواقعه وساحاته، ولا تستثني من تلك المواقع والساحات جانبا معتما فيها، اذ ليست كل عتمة يكمن وراءها النقيض للحب، وليست كل الأمكنة المشعة والمرفهة بالضوء مكتظة ومزدحمة بالحب. المدن والأمكنة حالات كما البشر حالات فيها المصاب بلوثة الضوء الذي - أحيانا - لا رؤية من خلاله وفيها المصاب بنعمة العتمة التي تكمن وراءها -أحيانا- أحزمة وجيوب من النور.
ما لم يتعلمه كثير من البشر أنهم تعاطوا مع المدن باعتبارها شوارع وبنايات وجسورا معلقة ومتاحف كئيبة ومكتبات كثيرا ما تزدحم بالجهلة أكثر من طالبي المعرفة، ومتى ما تم النظر الى المدن ضمن تلك الرؤية وبهكذا منظار، يتوارى الوجه الآخر منها، ذلك الذي تحتاج لتلمسه والقبض عليه لكثير من الإمكانات التي لا تعرف كنهه والسر من ورائه.
والحب الذي تمنحك إياه المدينة، مستمد من نظرك ورؤيتك اليها والى بشرها وحتى أشيائها التي تبدو مهملة ولكنها في كثير من الأحيان تظل مستوية في المركز والقلب منها، وعلاقة المدن بالبشر مثلها مثل علاقة البشر ببعضهم البعض، فمتى ما انقطع الحبل السري الذي يغذي ويراكم روحية تلك العلاقة، تصبح ضربا من الإدمان على اقتناء الأشياء سريعا والتخلي عنها بالسرعة نفسها.
وثمة مدن هي على الحياد من العلاقة... مدن باردة كالصقيع ، بلا مشاعر وبلا أحاسيس، تقيم فيها أياما وتغادرها من دون أن تشعر بحضورك، ومثل تلك المدن لا تبعث فيك الرغبة في ارتكاب الخطأ مرة ثانية: أن تعرج ولو على حدودها وأسوارها، ومدن بتلك المواصفات تجدها نسخة مصغرة في نفوس بشر وتعاطيهم مع من حولهم، ببخلهم وشحهم المستمر في العواطف
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 916 - الأربعاء 09 مارس 2005م الموافق 28 محرم 1426هـ