الأزمة اللبنانية الطاحنة أصابت شظاياها الحادة، كل الاطراف. معارضة وموالاة. الكل تضرر بدرجة أو بأخرى. لكن المتضرر الأكبر كان حزب الله. مع انه ليس طرفا مباشرا في الصراع الدائر. وهنا المفارقة الغريبة. بل اكثر من ذلك، اذ بقدر ما كانت تحتدم الازمة بقدر ما كانت خسارته ومازالت تتحول الى مأزق متفاقم. وهو اليوم يجد نفسه في وضع لا يحسد عليه: بين الدف والمسمار، لا هو موافق على نهج حلفائه وممارساتهم في لبنان، وإلا لكان انضم صراحة الى الموالاة، ولا هو بقادر على الوقوف ضدهم في صف المعارضة.
ويزيد من عمق مأزقه ادراكه - على ما يبدو - بأن المشكلة اللبنانية بوصولها الى النقطة التي بلغتها بسبب انقطاع شعرة معاوية بين اطرافها وبحكم التدخلات الخارجية فيها، بات تجاوزها - كيفما حصل - يهدد مصيره كمقاومة وكقوة في المعادلة، وبين متاعب المأزق وهاجس المصير، يدخل هذا الحزب مرحلة جديدة محفوفة بالمخاطر ومفتوحة على المجهول.
حزب الله ظاهرة فريدة في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي وحده في هذا التاريخ يحمل على صدره وسام التحرير المشرف والناجز. ووحده حظي برصيد واحتضان عارمين في لبنان والعالم العربي، فقد حقق ما لم تحققه دول. صحيح كان للدعم الاقليمي - السوري والإيراني - الذي توفر له أهميته البالغة في هذا الانجاز الوطني الكبير. لكن الأهم كان هو الحزب بخطه وشفافيته ومدى التزامه الثابت بهدف التحرير، مقاومته ما كانت ورقة للمساومة ولا "موضة" أو وجاهة ثورية. كانت عملية تحرير غير منقوص. ولذلك كسب وعن جدارة موقعه المتميز في الداخل والمنطقة والخارج. ومن هنا كان الالتفاف الواسع حوله والذي شمل جميع تلاوين الوضع اللبناني، أثناء سنوات المقاومة.
لكن بعد اندحار الاحتلال عن جنوب لبنان، بعد ما باتت كلفته عالية، بدأت علامات الاستفهام ترتسم حول دور حزب الله بعد التحرير. غير ان احدا لم يطالبه برمي سلاحه، على الفور. رصيده غني وانجازه وضعه فوق الارتياب. ولاسيما انه تصرف بنبل بعد الجلاء، اذ نأى عن الممارسة الثأرية في المناطق المحررة التي كانت تتعامل مع الاحتلال.
بعد ترسيم الحدود من قبل الأمم المتحدة بدأ يتآكل المبرر أكثر فأكثر لاستمرار المقاومة وسلاحها، لكن الحزب سرعان ما رفع ورقة مزارع شبعا، التي بقيت تحت الاحتلال. الالتباس بشأن ملكية تلك المزارع والسيادة التي تحكمها - هل هي سورية أم لبنانية؟ زاد من اهتزاز الصورة، وخصوصا ان العمليات ضد القوات الاسرائيلية في شبعا كانت تحصل على فترات متباعدة، وتحديدا عندما كان المراد منها ابلاغ رسالة سياسية الى "إسرائيل". لكن على رغم ذلك بقي الاحتضان اللبناني، الرسمي والشعبي قائما للمقاومة باستثناء بعض القوى التي بدأت تهمس وتغمز من زاوية الطلب بوجوب ارسال الجيش الى الجنوب والعمل على حل موضوع شبعا من خلال الأمم المتحدة وراح الجدل يغيب ثم يعود، بعد كل مواجهة يتلوها رد فعل اسرائيلي. وكان من الواضح وجود أمرين:
1- إن سورية تتمسك بمقاومة الحزب ووجوده المسلح على الحدود، كورقة قوة، فضلا عن حسابات الحزب الاقليمية.
2- إن الاطراف اللبنانية المطالبة بنزع سلاحه كانت تتوخى في الاساس تحرير سورية من هذه الورقة، تمهيدا لمطالبتها بالانسحاب الكامل من لبنان.
استمرت الحال على هذا المنوال حتى عشية التمديد للرئيس لحود في سبتمبر/ ايلول الماضي، عند ذلك ارتفعت وتيرة الحديث عن الحزب والمقاومة. ثمة من رأى في الامر اشكالا يتطلب الحل. وثمة من رأى في الالتزام بالمحافظة على سلاحها ودورها، شرطا لابد من توافره في المرشح المقبول للرئاسة.
على هذه الخلفية تم التمديد للرئيس لحود، بالصورة المعروفة ثم اعقبه صدور قرار مجلس الأمن ،1559 الذي دعا الى انسحاب سورية كما الى نزع سلاح الميليشيات، وذلك في إشارة وللمرة الأولى الى حزب الله، ومع صدوره دخل الموضوع حيز التدويل واحتدم الجدل أكثر بشأنه. لكن القرار، في شقه المتعلق بحزب الله لم يقسم الساحة اللبنانية بعنف ازاءه.
صحيح كان هناك من هو مع ومن هو ضد، ولكن ضمن دائرة الحفاظ على مكانة الحزب وهالته إلا أن الساحة اللبنانية كانت قد دخلت دائرة السخونة المرتفعة مع محاولة اغتيال النائب حمادة وجاء اغتيال الرئيس الحريري ليفجرها بين المعارضة والموالاة ومع هذا التفجير بدأت متاعب حزب الله الحقيقية، تلقي بثقلها على كاهله بل تضع وجوده على المحك.
فالحادثة المروعة اعطت التدخل الخارجي شحنة هائلة من الذخيرة للدفع باتجاه الاصرار على تنفيذ ،1559 الذي يستهدف الحزب بقدر ما يستهدف سورية. كما انها اعطت - أو أن المعارضة اخذت منها، لا فرق - المعارضة ورقة وازنة للمطالبة بالانسحاب السوري واستطرادا بوضع حد لدور حزب الله المألوف والمعروف. وبذلك وجد هذا الاخير نفسه فجأة امام ضغوط ومتغيرات جذرية بل امام خيارات، احلاها مر. كان ينعم باجماع نادر. اليوم صار عليه ان يختار طرفا من بين اطراف هذا الاجماع، بعد ما بات الخلاف بينها غير قابل للتوفيق. حاول لعب دور الوسيط. لكن على غير طائل. فالهوة باتت واسعة جدا ويتعذر ردمها.
الامور باتت في لبنان ابيض وأسود. لا مكان للرمادي واذا كان من الصعب والمؤلم على حزب الله ان ينحاز علنا الى جهة من اللبنانيين من دون أخرى، فمن شبه المستحيل ان يختار الوقوف ضد سورية في لبنان. والانكى من ذلك بالنسبة له انه اذا كانت سورية قد قررت الانسحاب بصفقة - في النهاية - فإنها قد تكون على حسابه. وهو تخوف مشروع واذا عاندت سورية ورفضت المغادرة في آخر المطاف، فإن حزب الله عندئذ قد يفرض عليه الانجرار ليكون طرفا في الصراع بين اللبنانيين وهذا ما لا يريده ولا يخدمه، لأنه يهدد صورته ومكانته ويحوله من حزب تحرير الى حزب تمرير، لسياسات غير مقبولة على الاقل من نصف اللبنانيين.
يحصل كل ذلك وانجاز التحرير لم يمض عليه بعد خمس سنوات، في بلاد العالم، الحزب الذي ينجز التحرير يكون في هذه المدة قد تربع على عرش السلطة، وباجماع يشبه المبايعة، أو على الاقل يكون قد تحول الى حزب وطني أو قومي كاسح صحيح ان تركيبة حزب الله كتركيبة لبنان المعطوبة بعلة الطائفية، ولا تسمح له بالوصول الى مثل هذه المراتب، لكن على الاقل كان من المفترض ان يبقى بمنأى عن التورط أو الانجرار الى مثل هذا المأزق. والمؤسف انه هو - الحزب - ساهم في بلوغ مسيرته هذه المحطة
العدد 915 - الثلثاء 08 مارس 2005م الموافق 27 محرم 1426هـ