كان ختام موسم عاشوراء مسكا، أو هكذا تخيلناه وتمنيناه، وخصوصا بعد أن اجتمعت لجنة المواكب الحسينية بالمسئولين وتم تبادل التهاني والشكر على النجاح الذي حققه التعاون بين الطرفين الرسمي والشعبي في الخروج بمستوى لائق بجلال المناسبة الدينية. إلا أننا بعد مضي أسبوعين على اختتام الموسم، صدمنا بما خرجت به الصحف المحلية يوم الاثنين الماضي من مانشيتات: "تجاوزات في بعض الأمكنة"، "شعارات وصور مخالفة للقانون"، "تجاوزات وشعارات خارجية في عاشوراء"، حتى يتصاعد الانفعال في الصحيفة الأخيرة: "أسف على ما حدث في عاشوراء"، و"بيان استنكار مشترك بين الشورى والنواب".
وعلى مستوى المقالات، بدأت الطاحونة تدور لتخرج لنا أول المقالات الطازجة والبقية تأتي: بدءا من "هل نجرؤ"، وانتهاء بالتحذير من مربع الوجع، الذي وقع صاحبه في "ورطة ليلة السبت" بسبب عدم التريث! ومن هنا تسرع في الاستنتاج بأن هناك من يحاول إشعال الفتنة والعودة بالبلاد إلى "تلك الحقبة السوداء"، استدلالا بـ "التخريب المتعمد الذي طال 300 سيارة في منطقة المنامة"! ولنكتشف في الصحيفة نفسها تصريحا للقائم بأعمال مدير إدارة أمن منطقة المنامة، بشأن الخبر المذكور ووصفه بـ "المبالغة الزائدة". وأوضح أن العدد لم يزد على ثلاث سيارات، وليس 300 كما نشر!
على أن "التحليل الأكثر غرابة" هو التساؤل البهلواني: "ما الذي يجري في البحرين؟ هل هو تمهيد لإعلان حالة حرب أهلية على الطريقة العراقية"!
ونتساءل بصدق وإخلاص للوطن أولا، وللمهنة ولزملاء المهنة ثانيا: هل نقبل كصحافيين أن نكون نافخي كير في كل مناسبة؟ وهل يجوز للصحافة أن تلعب دور التهويل في كل قضية صغرت أو كبرت؟ أليس للقلم قدسية واحترام ينأى بنا عن السقوط في مستنقع الصغائر والفتن؟ أليس حريا باستخدام القلم في الإصلاح والتقويم بدل التورط في الإثارة والتهويل؟ ثم إذا كنا ننتقد من حمل الخبز ووقف هادئا ملتزما القانون والآداب العامة وبطريقة يعتبرها هو سلمية وحضارية، ليعبر عن رأيه في سياسات محلية هي موضع جدل وطني منذ وقت طويل، أفليس "التجرؤ" في الإفتاء بأن ما يجري هو "إعداد لحرب أهلية"... شكلا من التهويل غير المقبول؟ وإذا جاز لنا استخدام لغة التجار السائدة، ماذا سيقول المستثمرون عندما يقرأون مثل هذه التحليلات التي "زادت عن حدها فانقلبت ضدها"؟ ألا تذكركم مثل هذه الكتابات "المبرمجة" بالنكتة الشعبية المختصرة جدا: "محامي رفع قضية طاحت عليه وانكسرت ريله"؟ ألا ينطلق هؤلاء من مواقف مسبقة مشحونة نفسيا، لا تدري بما يجري في البلد من تحولات إيجابية، تعكسه المشاركة الرسمية في الموسم والبث في التلفزيون وغيرها...؟ لكن هؤلاء مثل الحشاش، الذي أوقفه شرطي المرور مصادفة على شارع الكورنيش ليسأله عن أوراق سيارته فقال: "أي حشيش تتكلم عنه... الله هداك؟".
وللعلم، ولمن يجهلون دخائل الأمور ويكتبون من وراء مكاتبهم العاجية، أن ظاهرة رفع الصور والأعلام الخارجية ليست موضع إجماع داخل "البيت الشيعي" على الإطلاق، وفي هذا الموسم بالذات دارت حوارات كثيرة، كنا نسمعها ليل نهار، يحمل بعضها انتقادا لهذه الظاهرة ويدعو إلى تجاوزها، وبعضها الآخر يحمل استياء شديدا، وبلغة حادة أحيانا للفئة التي تقوم برفع الصور. وإذا كان لي أن أذكر دليلا من الداخل يحمل درجة عالية من الصدقية، فمن داخل أحد الصناديق الخيرية قبل ليلتين، فبعض انتهاء جلسة مجلس الأمناء دار نقاش حول صور معلقة قريبا من مقر الصندوق، ومن بين عشرة أعضاء لم يكن هناك شخص واحد أبدى تأييده لهذه الظاهرة، بل غالبيتهم انتقدوها. ولمن يريد أن يفهم الواقع، عليه أن يتذكر أن الصناديق الخيرية تعمل بها شريحة من الشباب المثقف الواعي الملتزم، الذي يعبر بصدق عن اتجاه "الشارع الشيعي" في العمق.
لم نكن نتمنى حصول هذا التهويل، أو تتورط صحفنا الأربع في نشر الخبر بهذه الصورة، أو يتورط زملاء في استنتاجات "الحرب الأهلية" أو نظريات جر الساحة إلى "مربع الوجع"، ببساطة لأنها لم تكن في واقعها بهذا الحجم فعلا. وإن كانت ثمة تجاوزات للقانون فينبغي ألا تحدث أية تجاوزات للقانون في أية إجراءات قانونية. فنحن نعيش مرحلة انفتاح يحسدنا عليها الكثيرون، ولا يريد أحد، رسميا أو شعبيا، العودة إلى الماضي، الذي تبشرنا به هذه المقالات العجولة المنفعلة، التي ينقصها الكثير من حكمة الكبار
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 915 - الثلثاء 08 مارس 2005م الموافق 27 محرم 1426هـ