فيلم «غران تورينو» الذي يعرض حاليا في سينما السيف يتحدث عن أزمة الأحياء في المدن الأميركية التي شهدت منذ سبعينات القرن الماضي موجات من الهجرات الآسيوية التي نزحت من البعيد حاملة معها ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها واستوطنت مناطق مختلفة من الولايات المتحدة.
الفيلم الذي أخرجه ولعب دور بطولته كلينت أستوود يستخدم لغة سوقية في السيناريو باعتبار أن الشتم والسباب والألفاظ القاسية تشكل عادة مادة الحوار اليومي بين الطبقات الشعبية. فاللغة عفوية وعنصرية وعنيفة في آن، وهي تتعمد التهكم والتجريح في التعامل مع الآخر المختلف. والمختلف يعني الافتراق وصعوبة التفاهم والتعايش حتى لو فرضت الظروف نفسها ودفعت بالناس اضطرارا إلى التعايش.
هكذا يبدأ الفيلم. الناس العاديون يميلون نحو العنصرية الشعبوية التي تقوم على التبسيط والمشاهدة والتشاوف على الجيران. وهذه العنصرية العفوية في النهاية ليست سلبية لأنها ليست منظمة حتى لو تأسست على ثقافة طاردة تكره الاختلاف وتتجنب التكيف مع الجديد الآتي من وراء البحر.
مسألة عدم القدرة على التكييف تشكل أساس السيناريو الذي نسج استوود حواره الشعبي ولغة التخاطب بين مجموعات أهلية متنافرة شاء القدر أن تجتمع في حي مدينة أميركية. فالحي يعطي فكرة عن مدينة والمدينة تقدم صورة مصغرة عن أميركا الجديدة وهي لن تكون في المستقبل على ما كانت عليه الولايات المتحدة في الماضي.
«غران تورينو» هي أسم سيارة فورد اشتراها الأميركي في السبعينات وحافظ عليها لكونها تمثل مفخرة الصناعات الوطنية. ولهذا السبب تحولت السيارة إلى محط أنظار المعجبين واللصوص بوصفها أصبحت قطعة نادرة وتنتمي إلى موديل كلاسيكي.
صاحب السيارة أميركي من أصول بولندية كاثوليكية يفتخر ببلده الجديد ويحرص عليه. فهو يرفع العلم الأميركي أمام مدخل منزله ويتفاخر بأمجاده وبطولاته حين قاتل دفاعا عن مصالح أميركا في كوريا في مطلع الخمسينات. فهناك في الأدغال قاتل شعوبا آسيوية وقتل منهم 13 شخصا وسقط من أصحابه الكثير من الضحايا.
الآن وبعد مرور نصف قرن على نهاية الحرب الكورية بدأ هذا الجندي العجوز يشهد بداية نهاية بلده ويلحظ موجات آسيوية تزحف إلى المدن وتستوطن من دون أن تتعلم الإنجليزية أو تحترم عادات أميركا وتقاليدها. فهذه الأقليات الملونة (الصفراء) تشوه الطابع الخاص للأحياء وتدخل عليها أطعمة وروائح وأساليب حياة لا تنسجم مع ثقافة الولايات المتحدة.
محيط الأميركي ومختلف سكان الحي تلون بتلك المجموعات السمراء والصفراء ولم يصمد في المكان سوى هذا الجندي العجوز المتشاوف والمتعجرف على جيرانه الآسيويين. والجيران الذين حاولوا مرارا التقرب من «الأميركي» كان نصيبهم الصد والسب والشتم والكلام العنصري والتصرفات الكارهة. وبسبب سلبيته نتج عن العلاقة الجفاف المتبادل. فهم لا يريدون رؤيته ويطلبون منه بيع منزله ومغادرة الحي. والأميركي الأخير يصر على تعامله الفوقي ويرى أن هذا البلد بلده وهو لن يترك لهم الدار حتى لو أصبح وحيدا، ومن دون وريث.
أزمة الأميركي (البولندي الكاثوليكي) مع جيرانه تشكل مفتاح المشكلة التي تعاني منها الولايات المتحدة بعد أن دخلت في طور تاريخي أخذ يعدل هويتها ولونها وثقافتها. فالأميركي الأخير ليس أميركيا وإنما هاجر في أربعينات القرن الماضي وتزوج وخدم في الجيش ونال أوسمة على بطولاته وشجاعته. والجيران من كل الأجناس والهويات والشعوب هاجروا إلى أميركا على دفعات وفي فترات مختلفة بدأت تتصاعد في الستينات والسبعينات والثمانينات.
الصراع الحاصل بين الأحياء وداخل كل حي هو بين مجموعات إثنية ولونية وثقافية جاءت إلى الولايات المتحدة لأسباب مختلفة منها أن بعض تلك الجماعات ظلمت وقهرت في بلدانها الأصلية بسبب تعاملها مع الاستعمار الأميركي. فهؤلاء في مجموعهم من أنصار النموذج الأميركي وحين نزح النموذج وانكفأ هاجروا معه خوفا من الثأر والانتقام.
مشكلة الأميركي (البولندي) أنه لم يستوعب المسألة ولم يستطع التكيف مع متغيراتها. وبسبب عناده ورفضه تقبل المتحولات عاش في حياة منعزلة أدت إلى استفزاز أسرته وأولاده نتيجة التشنجات المستمرة مع محيطه. حتى ابنه الكبير الذي أصبح موظفا في شركة «تويوتا» اليابانية ويقوم يتسويق وترويج سياراتها كان يلقى التعنيف من والده الذي يأبي التخلي عن فورد (غران تورينو) ويقتني سيارة غير أميركية.
عدم التكيف يشكل حجر الزاوية في سيناريو الفيلم. فهذا الجندي العجوز لا يذهب إلى الكنيسة ويحتقر رجال الدين الكاثوليك. وأيضا أساء إلى أسرته وفشل في ابتكار وسيلة للتقرب من ولديه. كذلك لا يعرف كيف يتعامل مع جيرانه ولا يدرك ما هو المطلوب منه للتجانس والقبول بالأمر الواقع.
كل هذا العنف العفوي المحكوم بسلوك عنصري ولغة سوقية ينهار فجأة ويتحول من قوة كارهة ومتعجرفة إلى طاقة تمتلك عزة النفس حين يتعرض الجيران (كوريين) إلى ملاحقة عصابات آسيوية تحترف التهريب والسرقة والإجرام.
نهايات الفيلم تكشف عن وجه آخر للعنصرية الشعبوية. فهذا الأميركي (البولندي) ليس سيئا وإنما محدودا في وعيه وثقافته. فهو بسيط كالشعب ولا يحمل تلك الكراهية في أعماقه لكونه تربى على ثقافة تحترم العمل وتحث على التعب ولا تقبل نهب أتعاب الآخرين.
في نهاية سيناريو «غران تورينو» ما يشبه الانقلاب في العلاقة بين الأميركي الأخير وجيرانه إذ يتحول إلى قوة مدافعة عن الظلم الذي تعرض له محيطه من عصابات أخرى تستوطن تلك الأحياء المجاورة. ولأن الجندي العجوز تأسس على ثقافة الاستقلال والفردية والاعتماد على النفس والافتخار بالذات انتقل من معسكر الأعداء للجيران إلى معسكر الصديق الوفي المخلص والمستعد للتضحية بنفسه من أجل المحافظة على كرامتهم.
القصة تستحق المشاهدة. فهي في المطاف الأخير تحاول أن تروي حكاية أميركا وتاريخها وتطورها الزمني واختلاف عناصر تكوينها. فالسيناريو يتناول مجرد حي في مدينة ولكنه يرمز إلى الإشارة إلى تلك التحولات والمتغيرات التي طرأت على هوية أميركا وثقافتها ودينها ولونها. فالولايات المتحدة لم تعد «غران تورينو» فهذه السيارة الفخمة أصبحت قديمة وكلاسيكية وهي تشبه ذاك الجندي العجوز الذي قاتل يوما في آسيا ويعيش وحيدا في أميركا.
العدد 2400 - الأربعاء 01 أبريل 2009م الموافق 05 ربيع الثاني 1430هـ