"كل ما حولنا هو أميركي، أكوام من اللون البرتقالي، برتقالي في السماء، برتقالي في البحر. .. انه كابوس"...
"زوجة الزعيم الأوكراني السابق"
منذ أن أطل علينا الإرهاب برأسه، اجتهد كثيرون في تعريفه، اجتهدت مؤسسات دولية، وجماعات علمية. من التعريفات ما ذهبت إليه الجمعية العامة للأمم المتحدة "1999"، وتعريف الاتحاد الأوروبي، وأخيرا تعريف المجمع الفقهي الإسلامي "2002"، والأخير يقول "انه - أي الإرهاب - هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيا على الإنسان: دينه ودمه وعقله وماله وعرضه"، وفي التفصيل القتل بغير حق أو تعريض حياة أو حرية المواطنين إلى الخطر.
كل التعريفات السابقة تقودنا، إن نظرنا إلى قتل الرئيس المرحوم رفيق الحريري، انه فعل إرهاب لاشك فيه. ومن السابق اليوم أن نعرف من كان المنفذ، وربما لن يعرف هذا المنفذ على وجه الدقة واليقين، إلا ان القتل بحد ذاته قد خلف لنا حقيقتين على الأقل، الأولى انه فعل لا يقدر عليه إلا جهاز مدرب ولديه القدرة والتمويل وطرق الإخفاء، فهو ليس فردا أو جماعة صغيرة، والحقيقة الثانية أن قتل الحريري قد فجر أزمة في لبنان، أزمة كبيرة، بكبر موقع الرجل وتطلعاته إلى وطنه، وبكبر عمله وشبكة علاقاته.
ومفتاح حل الأزمة اللبنانية ليس في بيروت، لا المختارة ولا عين التينة، المفتاح الحقيقي موجود في دمشق، هناك تلتقي أنظار العالم، ويتوقع الجميع الخطوة التالية، وهو ليس مفتاحا فقط لحل الأزمة التي اشتعلت في بيروت، بل هي أيضا مفتاح لحل أزمة أخرى قابعة تحت الرماد في دمشق أيضا.
تستطيع دمشق أن تتخذ من لبنان مكانا لتفجير أكبر وأعظم، فهي ليست من دون أنصار وحلفاء في هذا البلد الصغير، بل إن الحلفاء والأنصار قد تكاثروا على مر السنين الماضية، ودمشق تستطيع، كما قيل على لسان بعض ساستها، أن تفجر من الألغام بقدر ما تريد. هناك فئات لبنانية لها مصلحة مادية مباشرة في إبقاء العلاقة كما هي، متداخلة وحميمة، وتابعة أيضا، ليس كلها مصالح مادية، بعضها سياسي، وبعضها ربما استراتيجي.
محصلة القول إن دمشق تستطيع إن رغبت أن تخلط الأوراق كما تشتهي، وليس مثل هذا السيناريو بعيدا أو غير محبب للبعض في دوائر القرار في دمشق، ووليد المعلم لم يكن بعيدا عن الحقيقة عندما قال ما معناه، اننا يمكن أن نخلط الأوراق، وتتضرر لبنان من ذلك، وربما بعض العرب ضررا كبيرا.
كما أن المطلع على الشأن اللبناني منذ فجر الاستقلال الحديث يعرف على وجه اليقين إن بذور الخلاف، هو في الاستخلاف، إذ إن أهل السلطة لا يطيقون كثيرا رؤية شخص واحد على كرسي الرئاسة لمدة طويلة، حدث ذلك منذ عهد بشارة الخوري العام ،1952 واستمر طويلا ومتعددا في معظم العهود، بعض الصراع مر بقليل من الألم، وبعضه لم يمر إلا بدم متدفق. وكان الشعار اللبناني بعد كل أزمة هو الشعار المعروف والمراوغ، الذي اختص به التاريخ اللبناني الحديث حتى عاد مسلمة من مسلماته، وهو شعار "لا غالب ولا مغلوب".
ما يراه المراقب أن جذور الشقاق اللبناني هو داخلي، وصلبه عدم استعداد الفرقاء اللبنانيين بان يسيروا على هدى دستور متفق على تفسير بنوده بشكل معقول، والجميع على استعداد لاحترامه.
الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة والمرهقة، كانت الأطراف فيها لبنانية، استفاد منها الآخرون على ارض لبنان، وحلت في النهاية بعض المصاعب الداخلية، عن طريق اعتماد إعادة التوازن بين الفرقاء، ولكنها لم تحل القضية اللبنانية، لان شعار لا غالب ولا مغلوب ملتبس، يقوله الجميع علنا، ويضمر كل فريق منهم بأنه الغالب. كما أن أشكال التدخل الخارجي المباشر وغير المباشر استمرت، فقط تغير اللاعبون في الداخل والخارج، أما قانون اللعبة فلم يتغير، حقيقة الأمر أن اللبنانيين بين فترة زمنية وأخرى يذهبون إلى الانتحار الجماعي، وكل الاتفاقات اللبنانية بين الفرقاء اللبنانيين طوال تاريخها الحديث، توصل إليها الفرقاء بواسطة حكومات أجنبية.
الملحوظ اليوم أنه على رغم قسوة الحرب اللبنانية وعبثيتها وعشوائيتها التي لم تنج منها جماعة أو منطقة، وعلى رغم الثمن الفادح الذي دفع أثناءها، أصبح اللبنانيون، كل اللبنانيين مغلوبين، ولا غالب بينهم، إلا من كان ذا عقل سقيم، ومن يعتقد منهم انه يستطيع أن يملي ما يريده أو يعتقد به على الآخرين، فذلك عمل عبثي.
هذه الحقيقة اكتشفها وعمل بها رفيق الحريري رحمه الله، ويبدو أن بعض العقلاء في الصف السياسي اللبناني قد فطنوا لها. فهناك على سبيل المثال توافق بين المعارضة وبين الموالاة، من خلال تصريحاتهم على وجوب التمسك بعلاقات متينة واستثنائية مع دمشق، وهناك أيضا توافق على عدم الانزلاق إلى همجية الحروب بالوكالة وتقديم الضحايا، وهناك توافق على تفعيل المؤسسات السياسية. وهناك أيضا إشارات لا يخطئها المتابع على خفوت حدة الحس الطائفي، الذي كان دائما مدخلا للشقاق بين اللبنانيين، فقد رفعت في هذا التحرك الأخير أعلام لبنان، وسمع نشيد لبنان الموحد، وشاهد العالم الهلال والصليب جنبا إلى جنب. وتلك مظاهر تقود إلى القول إن مشاعر التضامن الطائفي قد تراجعت وغلبت عليها مشاعر التضامن الوطني. وللمدرسة الحريرية ومن آمن بها من اللبنانيين، الفضل في تثبيت هذه الظاهرة الجديدة، فلقد كانت له رؤية كلية للوطن، لم تتوافر لزعماء قبله.
لقد عرف الحريري أن الشعور الطاغي بانتفاء العدالة، هو احد مكونات تسمم العمل السياسي اللبناني، فقام بطريقته الخاصة، بمحاولة ردم تلك الهوة وهي عميقة، مثل بناء المدارس في المناطق المحرومة، وإرسال عدد ضخم من اللبنانيين، حسب كفاءتهم لا انتمائهم الطائفي، إلى تعليم راق، إلى آخر ما يعرفه الجميع من أعمال.
بكلمة: لبنان قد تغير نسبيا، ويصر أهل العقل فيه أن يكون الدستور هو الحكم والتطبيق الشفاف هو الآلية. وبقتل الحريري اكتشف اللبنانيون أنهم يفتقدون شيئا أكبر من اللقمة، وأهم من العدالة، هو فقدان الحرية جالبة الأمان، وتحول كثير منهم بعد معاناة طويلة من المطالبة باقتسام مغانم قابلة للقسمة، إلى تأكيد مبادئ غير قابلة للانقسام، أساسها تخليص السياسي من الأمني، وإلا فان كل القيادات بصرف النظر عن حجمها، قابلة للتحول إلى شظايا بشرية كما تحول الحريري ورفاقه في يوم مشمس من الشهر الماضي، وأمام الجميع، بما فيها الأقمار الصناعية التي تراقب الكون. دمشق عليها أن تكمل مهمتها اليوم إكمالا مشرفا، ليس فقط بالانسحاب المشرف، بل بتوجيه الحلفاء والأصدقاء بان يلعبوا اللعبة الداخلية بتؤدة وبتوازن، لا لأنهم عزيزون على دمشق، بل أيضا لسبب أهم، وهو أن تنقلب لعبة حرية لبنان إلى حصار لدمشق من الشرق ومن الغرب.
بقيت ملاحظة تابعة لكل ما قيل، وهي أن الدولة البوليسية قد سقطت في أماكن كثيرة من العالم، ولم يعد مستساغا أو قابلا للتسويق العمل السياسي من دهاليز إرهاب الدولة، لم ينفع ذلك عددا من الدكتاتوريات التي تناثرت أشلاؤها في العشرين سنة الأخيرة، وهو بالتالي لن ينفع أحدا بعدها، فثمة ربيع مقبل يراه البعض منا بوضوح تام. هنا يأتي القول إن مفاتيح دمشق قد يفتح بها أكثر من باب مغلق
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 914 - الإثنين 07 مارس 2005م الموافق 26 محرم 1426هـ