عندما تريد أن تناقش اليوم أية قضية ملحة في بلدك، فإن الهراوة "الطائفية" أول ما يرفع أمامك. وبدل البحث عن مخارج وحلول للعقد المستعصية، ترى محاولات التعمية والتضليل وصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية. ولأن البعض ألف هذا الوضع الشاذ المقرف وما عاد يستنكره، ربما يصبح من المفيد النظر إلى حياتنا بعيون الأشقاء. فالسائح الخليجي سيجد من غير الطبيعي مشاهدة معتصمين يحملون الخبز أمام التجمعات التجارية. وسيدهشه أن يقرأ في صحفنا عن زوبعة تثار في البرلمان بسبب مسرحية تحمل اسم مدينة في بلد مجاور، أو على صفحات الجرائد بسبب حمل صور أو اعلام من دولة مجاورة أخرى.
ثم انه من غير الطبيعي أن تنشر أسماء الموظفين الجدد في الصحف، أو أسماء الملتحقين بالجامعة مثلا. ولكنها كلها علامات على وجود أورام خبيثة تحت الجلد، وما كنا بحاجة لهذه الاجراءات لو لم يكن هناك تمييز طائفي فعلا، يعيشه الناس ويصلون ناره كل يوم.
الفرق هو أن أجواء الانفتاح السياسي رفعت الغطاء عن بعض هذا النتن الذي ينخر في عظام هذا الوطن، بينما كان المطلوب من الجميع في السابق التكتم عليه وإنكار وجوده، بل وإثارة زوابع للتغطية عليه سنوات مديدة. في هذا السياق نقرأ مرافعة وزير العمل مجيد العلوي التي ألقاها في جنيف قبل أيام، في محاولة لرسم صورة وردية خيالية عن وطن لم يعش في ظلاله الناس بعد.
هذه الطريقة تذكرنا بمحاولات الوزير السابقة في التقليل من خطورة أرقام البطالة المستفحلة، والزج بأرقام غير صحيحة ومحاولة ترويجها على أساس انها أرقام "رسمية". وهي سياسة استمر فيها الوزير حتى فوجيء الناس بالاعترافات الصريحة و"الشجاعة" في ندوة "ماكينزي" قبل أشهر، والتي كشفت عن وجود ثلاثين ألف عاطل عن العمل، وأن هناك كارثة تنتظر البلد بعد ثمانية أعوام من الآن، عندما يصحو على وجود 100 ألف مواطن سيجدون أنفسهم عاجزين عن الحصول على لقمة عيش كريم.
دفاعا عن الأباطيل
مرافعة الوزير في جنيف أقل ما يقال فيها انها ضعيفة وغير مقنعة، ويمكن بسهولة الحصول على شهادات مئات المواطنين إن لم يكن الآلاف لدحضها. وإذا أتيح لي المجال بتقديم شهادة شخصية، يمكنني الحديث عن سياسة إحدى الوزارات "التربية والتعليم تحديدا" في منتصف التسعينات. في تلك الفترة سألت شابا من الجيران عن سبب تركه الجامعة على رغم اجتهاده، فقال: "درسنا أم لم ندرس، لن يوظفونا". وكان ذلك لسان حال الكثيرين من أبناء المناطق التي حدثت فيها الاحتجاجات. وعندما تحاول إقناعهم بالمواصلة يردون: "أليس من الأفضل أن نوفر على أنفسنا التعب والتكاليف ونبدأ العمل في أي عمل متواضع، بدل أن نضطر إليه بعد أربع سنوات من الدراسة؟".
كثير من الطلاب استبعدوا لأنهم ببساطة من مناطق "الحوادث"، والكثير ممن واصل دراسته حرم من الوظيفة لعدة سنوات. ولأنني شخصيا كنت على تماس بالموضوع يمكنني القول بثقة إنني سمعت لأكثر من أربعين مرة خلال سبعة أعوام، من موظفي قسم التوظيف ردودهم على مراجعي القسم، بصورة مهذبة حينا "أنتم ما عندكم واسطة"، وجارحة مهينة ومستفزة أحيانا أخرى: "ليس لكم شغل هنا، ماذا ستفعلون"... إلخ، وأحيانا تنتهي باستدعاء رجال الشرطة لإخراجهم بالقوة.
قضية مئات الخريجين هذه نالت حيزا كبيرا من التغطية مع بداية صدور "الوسط"، ولم تجد لها حلا إلا بعد تغيير الوزير وانتهاج سياسة ذات نفس انفتاحي، فحرك الملف وفتح باب التوظيف أمام مئات الخريجين من المواطنين المحرومين من الوظيفة، مقابل استيراد مدرسين أجانب.
طبعا هذا الموضوع الذي يهدد مستقبل واستقرار البلد لم يكن يهم رئيس التحرير "الليبرالي" الشهم الذي يكتب الافتتاحيات المليئة بالتشكيك في مهارات الخريجين، ومن ورائهم الجامعة الوطنية التي تعلموا فيها. ومن أسف أن أمثال هؤلاء "المثقفين"، وزراء ومسئولين وكتابا و"ليبراليين مزيفين"، انما يزيدون التعمية على المشكلات والتغطية على مكامن الخطأ، ويدافعون عن السياسات الخاطئة ويجملون القبائح بآخر أنواع المكياج، وبالتالي يصعبون على صاحب القرار التعرف على المشكلات الحقيقية وبالتالي الوصول إلى الحلول الصحيحة، وبالتالي ترحيلها عاما بعد عام، حتى ينوء بحملها هذا الوطن المثقل بالهموم. لا تستغربوا افتتاحيات من يوظف 80 من الأجانب في "إقطاعيته" ويدعي انه يوظف 80 بالمئة من المواطنين!
جارنا الشاب الذي لم يكمل الجامعة قهرا يعمل الآن موظفا بسيطا راتبه 160 دينارا، وأمثاله من ضحايا "التمييز" في الحقبة السابقة يعملون سواقا ومراسلين وحراس أمن في المجمعات التجارية التي يتظاهر أمامها الجيل الجديد من العاطلين ويحملون الخبر احتجاجا على سياسات لم تكن من بنات اليوم، ولا أحسبها ستنتهي غدا. فلتحيا الليبرالية... و"كاسك كاسك يا وطن"
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 914 - الإثنين 07 مارس 2005م الموافق 26 محرم 1426هـ