لا أعرف أيهما كان المحرك لكل الشجن الذي هاجمني أثناء وجودي بقاعة مركز السنابس الثقافي مساء الخميس الماضي، أهي قوة العرض الذي قدمته فرقة العروج، أم هي الأجواء التي نقلتني إليها مسرحية "وانتصر الحق"، أم هي أنفاس عاشوراء التي تظلل أي تجمع يسترجع ذكراها؟ كذلك فإنني لم أتعود النقد المسرحي وما مارسته مسبقا لكنني أستطيع القول إنني حضرت عملا مسرحيا رائعا بناء على دعوة وجهت لي من قبل كاتب العمل ومخرجه جابر حسن، وهو العرض الأخير ضمن سلسلة عروض المسرحية التي بدأت منذ بدايات شهر محرم الحرام بقرية السنابس والتي يؤمل ان تنتقل لمناطق أخرى أقربها العرض الذي سيقام في مناسبة ذكرى الأربعين بقرية المعامير. باختصار أدهشني العرض بكل عناصره بدءا من فكرة حسن في ان ينتقل إلى المعسكر الآخر، ليروي القصة على لسان القتلة ولينقل حال الخزي والندم والخوف وكل مشاعر العنف والغضب التي تمتلئ بها نفوس أفراد هذا المعسكر، وصولا للحوارات المتقنة وللتفاصيل والحقائق التاريخية المروعة التي ضمنها حسن في نصه ذاك.
ولم تكن الفكرة والقصة وحبكتها هما عوامل الجذب فحسب، بل ان قدرة الكاتب على تضمين بعض النصوص الأدبية والشعرية المعروفة في مختلف الحوارات، أعطت النص طابعا مميزا هو طابع المأتم الحسيني الأمر الذي أدى إلى تفاعل كبير من الحضور وخصوصا كبار السن منهم، الذين لم يجدوا في لغة خطاب هذا العمل المسرحي الراقي أي شذوذ أو غرابة على اللغة المأتمية المعبرة عن القضية الحسينية حسبما عرفوها.
وحسن الذي أبدع الكتابة، برع في إخراج نصه وتقديمه على المسرح بطريقة لا تقل ذكاء عن فكرة النص وتناوله، ولعل أكثر ما يشد إلى عرضه هو تكوينه لتلك اللقطات المسرحية التي بدت معبرة إلى شكل كبير، فكانت كلوحات فنية تنقل لمشاهدها أكثر بكثير ما تنقله الكلمات. هذه اللوحات جاء بعضها ساكنا وقف فيها الممثلون خلف قضبان سجن تم تركيبها بديكورات رائعة، فبدا وكأن المخرج أراد نقل فكرة محاكمة هؤلاء القتلة من دون تضمين أية عبارات أو كلمات دالة على ذلك.
من جانب آخر بدت بعض لوحاته متحركة ناطقة بالكثير، بعضها صاحبته إضاءة قوية، بينما جاء بعضها سريعا في وسط ظلام المسرح كذلك المشهد الذي تظهر فيه الأعلام وهي تتهاوى في أيدي صبية صغار وسط مسرح يسوده الظلام ومع موسيقى تبعث الكثير من الشجن.
أعود مرة أخرى لأؤكد أنني لست ضليعة بالنقد لكنني مازلت تحت تأثير ما شاهدت ومازلت استرجع في ذاكرتي الكثير من المشاهد والوجوه والتعبيرات والكلمات والعبارات، ومازلت مندهشة من قدرة أعضاء الفرقة على تقمص الشخصيات التي قدموها حتى بدا بعضهم وكأنه يعيش الدور الذي يقدمه.
مازلت استرجع كل ذلك واتساءل كيف لا تحتضن وزارة الإعلام أو أية جهة رسمية أخرى مثل هؤلاء المبدعين، كيف لا يتواصل المسئولون مع أمثال هؤلاء الشباب، وكيف تبدع فرقة العروج على رغم تواضع إمكاناتها وعلى رغم كل التجاهل الإعلامي الرسمي لمواهب يمكن أن تفتح الباب لمسرح أكثر تنوعا وأكبر جماهيرية
إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"العدد 912 - السبت 05 مارس 2005م الموافق 24 محرم 1426هـ