العدد 910 - الخميس 03 مارس 2005م الموافق 22 محرم 1426هـ

السياسة تعتقل الشيخ

ابن سينا. .. الشيخ/ الرئيس "5"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في همذان تشكلت شخصية ابن سينا من جديد. فالشيخ الآن لم يعد ذاك الباحث عن المعرفة والمستقل عن ضغوط الناس. انه الآن الشيخ/ الرئيس الموظف في الدولة. والوظيفة "الوزارة" وضعت شخصية الشيخ أمام محك التجربة اليومية والتعاطي مع الناس وطلباتهم. وهذا النوع من الوظيفة يضغط على حياة الإنسان ويقيد حركته ويحدد هامش الحرية الفكرية ويعرض المسئول لانتقادات ويستدرجه إلى صراعات جزئية تسيطر عليها روح الحسد والغيرة.

دخول ابن سينا عالم السياسة من بابها الواسع أعاد تشكيل شخصيته ووضعها في إطارات ضيقة عطلت عليه الكثير من الطموحات المتصلة بمشروعه الفكري. كذلك أدخل عالم السياسة الشيخ/ الرئيس في صراعات كان بإمكانه تجنبها لو رفض هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والمنافسات الصغيرة. الا انه وبسبب صورة الاب القوي المتمثلة بذاك الموقع السياسي مال إلى استعادة تلك الصورة في شخصية رجل دولة يدير الأزمات من زاوية مثالية لا تقرأ بدقة الخصوصيات والحسابات الضيقة. فالوزارة جذبت ابن سينا ورفعت من مكانته الاجتماعية ووفرت له ذاك الجانب المادي الذي يؤمن بعض الاستقرار ويقلل من قلق الحاجة إلى المعاش ومتطلبات الحياة من رغد وهناء.

هذا الجانب نظر إليه ابن سينا بإيجابية ولم يفكر بتلك السلبيات التي ستنهض بوجهه وتعطل عليه ذاك الاستئناس بحياة سعيدة. الجانب الآخر من الصورة لم يلحظه الشيخ/ الرئيس الا بعد ان وقعت الواقعة ودخل الأمراء في منافسات أعطت فرصة للعسكر للتمرد عليه ونهب أملاكه وحبسه وكاد ان يقتل لولا تدخل أمير همذان شمس الدولة.

كادت الوزارة "السياسة" ان تقتل الشيخ وتعطل مشروعه الفكري. فالشيخ لم يدرك الفارق الكبير بين التعاطي بالنظريات والتعامل مع حقائق الواقع وتعقيداته. فالإنسان على الورق شيء وفي الحياة اليومية مسألة مختلفة. والإنسان السوي في صورة المثال هو غير الإنسان الملتوي في وقائع الحياة. وحين حاول ابن سينا التضييق على الولاة والعسكر مستخدما الشدة "الأخلاق النظرية" نقموا عليه وانقلبوا ضده ونفوه خارج الوزارة وطالبوا الأمير بقتله. لكن الأمير حماه من القتل واعاده إلى موقعه بعد اعتذار منه.

تورط الشيخ بالوزارة وأصبح أسير سلطتها وصلاحياتها وبات غير قادر على مغادرة تلك المساحة المليئة بالمتاعب وفي الآن المغرية في متاعها. فهو الآن نديم الأمير ومرافقه والرجل المفضل لديه في خلواته وسهراته. وفي الآن هو أسير الأمير من حيث لا يدري. وهذا ما جلب للشيخ بعض الحظ وبعض الشقاء.

لم يتوقف الشيخ في حياته السياسية عن استكمال كتابة مشروعه الفكري. فالبحث والتفكير والعمل الجاد تواصل إلى جانب تلك الصور الأخرى المضادة التي تكيف معها خوفا من النكوص الاجتماعي وخسارة مكانة سياسية وفرت له بعض الاستقرار المشوب بالحذر والمخاطر.

استمر حال الشيخ/ الرئيس على حاله إلى ان وقع القدر بوفاة شمس الدولة وصعود ابنه سماء الدولة إلى إمارة همذان. الأمير الجديد لم يكن على ود مع ابن سينا فأقاله من الوزارة "وهي الإقالة الثانية في تلك الإمارة" على رغم ان العسكر وقفوا إلى جانبه هذه المرة. فالعسكر طالبوا سماء الدولة الإبقاء على الشيخ في منصبه وإعادته إلى الوزارة الا ان الأمير رفض وأصر على تعيين وزير آخر في مكانه. وعاد ابن سينا من جديد إلى تلك الفترة التي عاش فيها الأرق من يومه والقلق من مستقبله.

لم يعد بإمكان الشيخ العيش خارج الوزارة. فالسياسة استدرجته إلى مكان آخر لا صلة له بأعماله الفكرية والفلسفية، وباتت شخصيته التي تشكلت من جديد تميل إلى الجمع بين السياسة "السلطة" والفكر على رغم ان القدر أسعفه حين فرق بينهما. طمع الشيخ بالرئاسة من جديد وأخذ يكاتب سرا أمير أصفهان طالبا منه اللجوء إليه. ولم يسعف الحظ ابن سينا إذ تسربت رسالة إلى أمير همذان سماء الدولة وسببت له مشكلة انتهت باعتقاله ووضعه أسيرا في قلعة فردجان.

الشيخ الآن في السجن والرئاسة ابتعدت عنه. وفي القلعة بدأ ابن سينا يستعيد شريط الذكريات وسيرته القلقة التي تخبطت صعودا وهبوطا بين عز الطفولة برعاية الأب ومهالك السياسة بعد شهرة اسطورية قل ان نالها غيره وهو في مطالع شبابه. وسيرة ابن سينا تشبه في تلك اللحظات الصعبة سيرة الدولة. فالدول أيضا تشهد تلك الفترات بين الصعود والهبوط. وابن سينا مثله مثل الكثير من ابناء جيله تعرض للانتهاك والتشريد والانتقال والترحال والرحيل. فالإنسان ابن عصره وبيئته وابن سينا ليس استثناء عن القاعدة. فهو نتاج تحولات ذاك الزمن وما أنتجته التقلبات من مقالات وتيارات ودول.

لاشك ان الشيخ/ الرئيس تذكر في تلك القلعة/ السجن رسائل اخوان الصفا التي نشرت للمرة الأولى في زمانه واطلع عليها، وتذكر تأييد والده للدعوة الفاطمية، وتفكر مليا بتلك النقاشات التي كان يجريها الأب حين كان دعاة الحركة الاسماعلية يعقدون الحلقات في دار رجل الدولة. فكل هذه المناخات الفكرية لم تكن بعيدة عن هذا الطفل الذي تفتح ذهنه قبل الاوان وانشغل واشتغل بحقول كثيرة ومتنوعة وتفوق فيها على رعيله وهو في سن الشباب. فالشيخ عاصر كل تلك التحولات وما شاب الأمة وديارها من انقلابات واجتياحات. فهو ابن مدينة تعرضت للغزو فاضطر إلى مغادرتها، وهو نتاج زمن تواجهت فيه الخلافة العباسية "البويهية" في بغداد مع الدولة الفاطمية في القاهرة على أرض بلاد الشام. وهو أيضا ليس بعيدا عن تلك السياسات التي ارتكبها الحاكم الفاطمي وما تبعها من رسائل سرية عرفت بـ "الحكمة" انتشرت فترة ثم اختفت. فكل هذه الفضاءات صنعت حكمة الشيخ وصقلت مواهبه. الا ان الشيخ الحكيم في الفكر والفلسفة هو غير الشيخ الرئيس في السياسة. فالسياسة شاطرت وعيه وأدخلته في حقل من الصعب اجتيازه من دون محن. وها هو الآن يدفع ثمن ضريبة السياسة في قلعة فردجان.

روافد المشروع الفلسفي لابن سينا كثيرة فهو غرف من تلك الثقافات التي تدفقت على الديار الإسلامية بتشجيع من السلطات السياسية احيانا ومن دون علمها احيانا أخرى الا أنها في مجموعها شكلت تلك المناخات الفكرية التي تشكلت منها تيارات عقائدية طالت الكثير من الجوانب الأصيلة في الشريعة الإسلامية. وابن سينا ليس بعيدا عن التأثر بتلك التكوينات العقائدية لتلك التيارات والدعوات. فالأفكار في النهاية لا تظهر فجأة ولا تختفي فجأة. فهي تنمو وتتسرب وتتلاشى إلى ان تضمحل تاريخيا حين تفقد وظائفها المباشرة. كذلك أفكار المعتزلة واخوان الصفا فهي استقت عناوينها من مدارس قديمة وتلاشت وتسربت ثم أعادت انتاج نفسها في حالات مختلفة، الأمر الذي لا يستبعد تأثيراتها على حركات ودعوات ظهرت في أوقات لاحقة في مصر وبلاد الشام وبلاد الرافدين وبلاد فارس. وابن سينا المسجون حاليا في القلعة ليس بعيدا عن ضفاف تلك الأفكار التي انسابت من مكان إلى آخر ومن زمان إلى زمانه.

زمان ابن سينا ليس مختلفا عن أزمنة غيره الا ان خصوصية شخصيته والحالات التي مرت بها أعطت ذاك الإنسان نكهة اسطورية تحكمت به وبتطوره الثقافي - النفسي منذ طفولته. وبسبب تلك المسحة الاسطورية كان على الشيخ/ الرئيس ان يدفع الثمن وها هو الآن استقر به المقام في السجن يستمع إلى تلك الأنباء الآتية من بعيد وقريب. فمن بعيد وردت الأخبار مؤكدة سقوط الدولة الأموية في الأندلس في العام 422 هجرية "1031م" بسبب الانقسامات القبلية والمناطقية والعرقية بين رجال الحكم. ففي ذلك العام ستنهار تلك الدولة القوية التي أسست ودعمت وأطلقت الوجه الحضاري للإسلام في أطراف أوروبا ومداخلها لتنهض مكانها دويلات صغيرة تتنافس لافتراس بقايا دولة منهوبة وتقيم مكانها إمارات طوائف تتعايش وتتقاتل على بقايا مركز سياسي أصيب بالترهل والتفكك. ومن قريب وفي العام نفسه "422 هجرية" سيرحل عن دنياه الخليفة العباسي القادر وهو حاكم صوري عينه البويهيون واجهة شرعية لحكمهم وسيخلفه في مقامه ابنه الخليفة القائم.

من قريب وبعيد كانت الفضاءات السياسية في الديار الإسلامية موزعة على إمارات مركزية تبدأ في الأندلس "الدولة الأموية" وتصل إلى مصر "الدولة الفاطمية" وبغداد "الخلافة العباسية" وبخارى "الدولة الغزنوية" وبين تلك المراكز تقع شبكات حكم محلية غير مستقرة في بلاد المغرب وبلاد الشام وبلاد فارس. والآن حين تفككت الدولة المركزية في الأندلس بدأت روح امراء الطوائف تنتشر وتمتد منتقلة من بلاد المغرب إلى بلاد فارس. وهناك وبسبب التلاعب السياسي بمركز الخلافة في بغداد وجد أمراء المدن فرصتهم للاقتتال والتغلب على بعضهم بعضا... وهذا ما حصل حين دب الصراع بين أمير همذان وأمير أصفهان في وقت كان ابن سينا يستعيد شريط ذكرياته في قلعة فردجان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 910 - الخميس 03 مارس 2005م الموافق 22 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً