في أيام عاشوراء نشر بعض الزملاء والزميلات آراء عن بعض الممارسات الخاطئة التي ترافق الاحتفال بإحياء هذه الذكرى التاريخية، وهي كتابات تشع منها النوايا الحسنة والرغبة في الإصلاح. المأخذ الرئيسي عليها هو التوقيت، فلم يكن من المأمول أن تؤتي أكلها في أيام الموسم، مع حالة "شد الأعصاب" في الساحة، فضلا عن ذلك ان ممارسات ترجع إلى عدة عقود أو قرون لا يمكن إعادة تفكيكها وتركيبها في غضون أيام، وإنما تحتاج إلى طرح مفتوح موجه للرأي العام في توقيت آخر أكثر هدوءا، فهناك 160 ألفا يملأون شوارع المنامة في ليالي عشرة محرم، هم المعنيون بالمسألة بالدرجة الأولى.
الرسالة "الهادئة" المطلوبة هي من مهمات كل من يشعر بالمسئولية التاريخية، من علماء دين وناشطين اجتماعيين ومثقفين وكتاب صحافيين ومتدينين مهتمين بالشأن العام، كل بحسب طاقته وتكليفه الشرعي وقدرته على العطاء. فموسم عاشوراء لم يعد مجرد موسم لتجديد الأحزان، وإنما أخذ أبعادا ثقافية واجتماعية واسعة النطاق، إذ يمتزج الدين والقيم والأفكار والمبادئ التي تؤثر عميقا على الاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة في البلد، من هنا لا ينبغي ترك الأمور تجري عشوائيا كالدابة العمياء.
أحد الجوانب التي نود توجيه الانتباه إليها هي أن فكرة المواكب ومراسم إحياء هذا الحدث التاريخي، تعتمد على أساس عقلاني عام وهو الإباحة، فالأعمال التي يأتيها الإنسان مادامت لا تخالف نصا شرعيا فهي تظل في نطاق المباح. من هنا أصبحت الساحة ميدانا مفتوحا يحتفل فيه كل جيل بطريقته الخاصة.
من هنا يمكن لعالم الاجتماع مثلا أن يلقي الضوء على جذور ممارسة معينة سادت قبل عقود في البحرين، كقرع الطبول ظهيرة يوم العاشر من المحرم، "وقت مقتل الإمام الحسين"، بربطها بقرع طبول الجيش الأموي المنتشي بـ "النصر" في تلك الساعة، ولكن سيجد المرء صعوبة في تطبيقها هنا، طبول فرح أم حزن!
وبالمثل يمكن للباحث أن يفسر ممارسة أخرى مشهورة في العراق، وهي "عزاء طويريج"، إذ يركض المعزون من مسافة كيلومترين من مسجد معروف إلى ضريح الإمام على أنها تعبير رمزي عن "الهبة" إلى نصرته. لكن الإشكال يقع عندما تنقل هذه الممارسة أو تلك بحذافيرها من مجتمع إلى مجتمع آخر من دون أدنى تقليم أو تهذيب، فتصبح تقليدا أعمى أو "شبه أعمى" يفتقر إلى العمق والكياسة. ويزداد الإشكال اتساعا عند الاستناد على أسس واهية في تبرير هذه الممارسة أو الدفاع عنها وكأنها جزء من أركان الدين. من ذلك مثلا ممارسة فظيعة "مستوردة" من شبه القارة الهندية، وهي المشي على الجمر. وسمعنا أن هناك من حاول إدخالها إلى البحرين منذ العام الماضي، والمفارقة ان هؤلاء عاشوا في لندن، وبدل أن يعودوا للبحرين بأحسن ما اكتسبوه هناك، نراهم عادوا بأسوأ ما يمارسه مسلمو شبه القارة الهندية من طرق فظيعة للتعبير عن الحزن. بل قرأنا دفاعا مستميتا عنها استنادا إلى حادثة وقعت قبل أربعين أو خمسين عاما، حين شاهد أحد رجال الدين بعض الهنود في العراق يعبرون عن حزنهم بهذه الطريقة، وبالتالي مادام رجل الدين هذا - مع احترامنا لشخصه - قد استحسنها فإنها أصبحت جزءا من الدين والمقدسات! فهل هذا منطق يستقيم مع العقل؟ وهل هذه أفضل طريقة لتنفيذ وصية: "كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا"؟
إحدى الإشكالات "الثقافية" الكبرى التي تعانيها التيارات الفكرية هنا في البحرين هي مسألة التبعية، حتى في هذه الأمور الصغيرة. فمشكلة التقليد "شبه الأعمى" والمحاكاة سمة بارزة في مجتمعنا، فالفرق الموسيقية كانت تصدح في بعض مواكب العاصمة حتى العام ،1979 وعادت إلى الظهور مرة أخرى في السنوات الأخيرة مع صعود نجم "الإصلاحيين" في إيران، ولكم أن تقرأوا دلالاتها.
ربما يعلل البعض ذلك بأننا شعب صغير، نعيش موزعين على أربع جزر مأهولة، من طبائعنا التسامح والانفتاح على الآخر والأخذ عنهم، لكن هذا لا يعني أن نأخذ كل ما "هب ودب"، فلسنا ملزمين بتقليد "عزاء طويريج" للجري في طرقات المنامة الضيقة، ولسنا مجبرين على قرع الطبول المزعجة لنتذكر لحظة قطع أوداج الحسين "ع" بسكين كليل، ولسنا بحاجة للمشي على الجمر للتعبير عن حزننا العميق لمقتل أنصاره. وإذا كان لنا من استهداء فليكن بالتوجيه القرآني الكريم: "يأخذوا بأحسنها".
طال الزمان أو قصر، فإن "عاشوراء"، من المنبر إلى الموكب، بحاجة إلى "ثورة" إصلاحية، ترشدها وتأخذها على الطريق المشرق السليم، فليسأل كل منكم نفسه: ما هو دوري في هذه الثورة، فكلكم راع وكلكم مسئول في شهر محرم عن "عشرته"
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 909 - الأربعاء 02 مارس 2005م الموافق 21 محرم 1426هـ