يمثل حادث اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه بداية تحول نوعي في الموقف السوري من الموضوع اللبناني والعلاقة مع لبنان، اذ انه نقل الموضوع اللبناني الى جملة موضوعات السياسة السورية الداخلية بعد ان كان خارجها في معظم الوقت. وكان في جملة مؤشرات هذا التحول، كلام سوري يتعلق بمستقبل الوجود السوري في لبنان والعلاقات السورية - اللبنانية، وكلام آخر يتصل بالعمال السوريين في لبنان، وبالاموال السورية المودعة في المصارف اللبنانية، والمؤسسات التي يملكها سوريون هناك. وقد تشاركت في الكلام بشأن هذه الموضوعات جهات سورية رسمية وشعبية، سياسية واقتصادية، حكومية ومعارضة، تصب جميعها في تجديد العلاقات السورية - اللبنانية. وكان دخول المثقفين السوريين في موضوع العلاقات السورية - اللبنانية مميزا في مبادرته ومعناه وفي توجهه الى معالجة جوانب مختلفة من العلاقات السورية - اللبنانية ومستقبلها، واتخذ تدخل المثقفين شكل مبادرتين، قدمت أولاها الى الرئيس بشار الأسد في رسالة لاحظت تداعيات الوضع اللبناني وما يحمله من اخطار على سورية ولبنان، وطالبت بسحب القوات السورية من لبنان في اطار "صوغ علاقة صحية وندية مع لبنان". وتضمنت الرسالة اضافة الى طلب سحب القوات "الالتزام بتطبيق اتفاق الطائف"، بصورة تجعل الخطوة السورية "استجابة لرغبة الشعبين السوري واللبناني في صوغ علاقة جديدة بينهما، تبطل الذرائع الخارجية، وتمهد الطريق لإعادة بناء الثقة والتعاضد بين الشعبين والدولتين في مواجهة التحديات المشتركة". اما المبادرة الثانية، فكانت نداء الى المثقفين والاعلاميين وقادة الرأي العام في لبنان، أكدت مساندة مطلب سحب الجيش السوري من لبنان وتصحيح العلاقات السورية - اللبنانية وإقامتها على أسس من المساواة والاستقلال والخيار الحر باعتبارها السياق الذي ينبغي ان تقوم عليه علاقات البلدين والشعبين. وطالب نداء المثقفين السوريين الى اقرانهم اللبنانيين تدخلهم للعمل على "تنقية العلاقة السورية اللبنانية لا من الهيمنة وحدها، ولكن ايضا من إهانة سورية وشعبها وتصويرهما عدوا للبنان واللبنانيين" في اشارة الى مظاهر، رافقت اجواء الغضب على اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وتداعياتها، ظهرت فيها هتافات ضد سورية وشعبها واعتداءات على "عمال سوريين"، باعتبارها تسيء إلى مستقبل العلاقات وتسممها. والحق فإن هذا التطور في مواقف المثقفين السوريين، إنما يستند إلى امرين اساسيين، اولهما بروز تيار لبناني يدعو الى خروج القوات السورية من لبنان، وتصحيح العلاقات بين البلدين، وهو تيار توسع بعد اغتيال الرئيس الحريري متحولا الى تيار شعبي، الامر الذي بات يفرض على المثقفين السوريين ان يتعاملوا معه بصفته هذه. والامر الثاني، ان المثقفين السوريين ربطوا بين تطورات الوضع في لبنان، وما تتعرض له سورية والمنطقة من اخطار محتملة تجد لها في الوضع اللبناني واحدا من عوامل التصعيد للارتكاز عليه، وخصوصا بعد صدور القرار الدولي 1559 الذي دعا الى خروج القوات السورية من لبنان، وقد صارت الدعوة الى تطبيقه أكثر الحاحا وسخونة بعد اغتيال الرئيس الحريري. وهذا التطور في موقف المثقفين السوريين من الوضع اللبناني والعلاقات السورية - اللبنانية، لم يكن فجائيا، وظرفيا ومرتبطا بما يحيط به من اجواء سياسية، انما كان في جانب منه نتيجة مبادرة المثقفين لتصحيح الاوضاع السورية وسياساتها الخارجية والداخلية، وقد جاءت في اطارها مقاربات للوضع في لبنان وللعلاقات السورية - اللبنانية، اشتغل عليها المثقفون السوريون في الاعوام الاخيرة داعين الى تصحيح العلاقات السورية - اللبنانية باعتبارها حاجة ملحة للشعبين والبلدين، ورسم ملامحها المستقبلية خارج ما كرسته تجربة الثلاثين عاما الماضية من تدخلات واختلاطات، كانت نتيجة ظروف محلية واقليمية ودولية، ادت الى اختلال في علاقات البلدين والشعبين. وقد صار من المطلوب والمفروض استبدالها بإطار يتم الاتفاق عليه بين السوريين واللبنانيين في اجواء من الاستقلالية والحرية، لا يوفرها انسحاب القوات السورية من لبنان فقط، بل وقف التدخلات السورية في الشأن اللبناني. لقد كتب كثير من المثقفين والكتاب والصحافيين السوريين مقالات وتحليلات حول الموضوع اللبناني بجوانبه المختلفة في صحف اجنبية وعربية، كما في الصحف اللبنانية بمقدار ما سمح به الحيز المتاح. ذلك ان موضوع العلاقات السورية - اللبنانية كان محاطا حتى وقت قريب وفي الصحافة اللبنانية خصوصا بمحاذير العلاقة مع دمشق سواء بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، أو بالنسبة للشخصيات السياسية ذات التأثير في الوسطين السياسي والاعلامي، وهو ما جعل تناول الموضوع محدودا بصورة ما وسط مجموعة من المحاذير. ولاشك ان التدخل الاخير والمباشر للمثقفين السوريين في الموضوع اللبناني وتحوله الى شأن في يوميات السياسة السورية وفي صلب اهتماماتها، سيجعل من تفاعلاته أكثر سرعة، ويعزز ضرورات انضاجه بصورة اقرب الى الصحة، ليس فقط بسبب تأثيراته على سياسة سورية الاقليمية، واعادة رسم مستقبل علاقات سورية العربية انطلاقا من العلاقات السورية - اللبنانية، بل بفعل تأثيراته على الاوضاع الداخلية السورية في ابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكثير منها لم يعد يقبل التأجيل
العدد 908 - الثلثاء 01 مارس 2005م الموافق 20 محرم 1426هـ