على غير توقع، قام الرئيس محمد حسني مبارك بانقلاب ديمقراطي في مصر، فاجأ الجميع، المؤيدين والمعارضين، الأحزاب والهيئات، الضاغطين من الداخل ومن الخارج على السواء، قاطعا طريق المزايدات على الجميع من دون استثناء، خصوصا اعداء الديمقراطية الذين أصيبوا بالارتباك. تقدم الرئيس مبارك بطلب رسمي إلى مجلسي الشعب والشورى، بتعديل المادة 76 من الدستور المصري الصادر العام ،1971 التي كانت تنص على أن يتم اختيار رئيس الجمهورية بغالبية ثلثي اعضاء مجلس الشعب، ثم يطرح الاسم المختار والمرشح على الاستفتاء الشعبي العام، ما كان يضع حق الاختيار عمليا في أيدي الغالبية الحزبية داخل البرلمان، من دون اتاحة الفرصة للانتخاب الشعبي الحر العام، ومن دون إتاحة الفرصة لمنافسين حقيقيين يخوضون الانتخاب العام. ومن المؤكد أن هذه خطوة كبيرة في طريق تدعيم الإصلاح الديمقراطي الوطني الحقيقي، إذ إن تعديل المادة 76 من الدستور، يرمي إلى تحرير انتخاب رئيس الجمهورية من قبضة الغالبية الموافقة في مجلس الشعب، وإعادة حق هذا الانتخاب إلى الشعب مباشرة، اسوة بما هو متبع في كل الدول الديمقراطية المعاصرة، عن طريق المبادئ الرئيسية الآتية: - انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الانتخاب العام السري المباشر في يوم واحد. - وضع الضمانات التي تكفل ترشيح أكثر من مرشح للمنصب الأول والاهم، في منافسة عامة، تشترك فيها الأحزاب السياسية وكل الهيئات والأفراد الذين يرون أن من حقهم دخول المنافسة. - اجراء الانتخابات الرئاسية تحت اشراف لجنة عليا مستقلة تضم أعضاء من الهيئة القضائية ومن الشخصيات العامة، وبما يكفل اشراف القضاء على العملية الانتخابية اشرافا كاملا. - تطبيق هذا التعديل الدستوري الاهم في تاريخ مصر المعاصر، على الانتخابات الرئاسية القادمة، والمقررة هذا العام، بعد انتهاء ولاية الرئيس مبارك الحالية وهي الرابعة. وأحسب أن يوم 26 فبراير/ شباط ،2005 سيسجل في التاريخ يوما للتحول المصري العربي، نحو ديمقراطية انتخاب رئيس الحكم عن طريق الشعب مباشرة، وليس عن طريق البرلمان، كما هو الحال في بعض الدول، أو كما جاء في دساتير مصر منذ قيام الثورة العام ،1952 وخصوصا دستورها الأول العام ،1956 ودستورها الثاني العام 1961 في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، ثم الدستور الحالي الصادر العام 1971 في عهد الرئيس السادات، وكلها أقرت الاستفتاء طريقا. وأحسب أيضا أن هذه مبادرة جاءت في زمانها ومكانها، استجابة لمطالب شعبية واسعة قدمتها أحزاب سياسية ومنظمات ومؤسسات مدنية ناشطة، ظلت تلح عليها خصوصا عبر السنوات العشر الأخيرة، هادفة من ورائها إلى إعادة حق انتخاب رئيس الدولة إلى الشعب صاحبه الأساسي، من دون واسطة حتى من أعضاء البرلمان المنتخبين، ومحققة في الوقت ذاته مبدأ حق جميع المتنافسين في دخول الانتخابات وفقا لمبدأ المواطنة، لكفالة شرطي الحرية والتعددية. ولم يكن خافيا على أحد، أن مصر "ونظام الحكم فيها خصوصا"، تتعرض لانتقادات شديدة، من الخارج، ولضغوط أشد من الداخل، ترى في طريق انتخاب أو اختيار رئيس الجمهورية وفقا للمادة 76 من الدستور الحالي، عائقا أمام مبدأ رئيسي من مبادئ الإصلاح الديمقراطي، وترى أن وضع هذا الاختيار في ايدي الغالبية الميكانيكية داخل البرلمان، يمثل حرمانا للشعب من حقه في اختيار رئيسه بطريقة مباشرة من بين متنافسين متعددين، يقدم كل منهم برنامجه الانتخابي وأجندته الوطنية علنا ليتعرف عليها وعليه المواطنون أصحاب حق التصويت، قبل أن يذهبوا إلى صناديق الانتخاب. وحين نتابع تواتر حركة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وتيارات الإصلاح والتغيير الديمقراطي في مصر، على مدى السنوات الأخيرة، نلحظ بلاشك تصاعد دعواتها بضرورة تعديل الدستور المصري، ليفسح الطريق السليم أمام التطور الديمقراطي الصحيح، خصوصا فيما يتعلق بانتخاب رأس النظام، وبتأكيد مبدأ تداول السلطة عبر الانتخابات النزيهة، وبوضع الضمانات الدستورية لحرية الترشيح والانتخاب تحت اشراف قضائي شامل على العملية الانتخابية كلها، منذ تسجيل قوائم الناخبين، حتى إعلان النتائج، وإلغاء القوانين العادية والاستثنائية التي تقيد الحريات العامة. ولقد بلغ هذا التوتر ذروته في الأسابيع الماضية، من خلال "توافق أحزاب المعارضة" التي يقودها عمليا أهم ثلاثة أحزاب ناشطة، وهي الوفد والتجمع والعربي الناصري، إذ وضع هذا التوافق أجندته السياسية مركزة على طلب تعديل الدستور، وتعديل قانوني الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية، لاطلاق الحرية الكاملة أمام الشعب ومنظماته المدنية، في المشاركة الفعالة في صنع القرار ووضع السياسات وتبادل المواقع وتداول السلطات. وبهذه الأجندة دخل توافق الأحزاب حوارا على الحزب الوطني الحاكم، فهمنا انه كان حوارا صعبا، إذ أصرت الأحزاب على ضرورة تعديل الدستور بدءا بمادة 76 الخاصة بطريقة انتخاب رئيس الجمهورية، وأن يتم التعديل فورا لتجرى الانتخابات الوشيكة على اساسه، في حين أعلن الحزب الحاكم أنه إن كان يوافق على مبدأ تعديل الدستور، إلا أنه يتمسك بأن الوقت غير مناسب، وأن المساحة الزمنية المتبقية على يوم الاستفتاء على رئيس الجمهورية لا تسمح بتعديل الدستور الآن. وبينما كانت بعض أحزاب التوافق هذه، تقبل على مضض ذرائع الحزب الوطني الحاكم، وتصمت عن مطالبها "بنورية" تعديل الدستور، فاجأ الرئيس مبارك الجميع بانقلابه الديمقراطي على غير توقع، وتقدم هو بحكم مسئولياته وسلطاته الدستورية بطلب تعديل الدستور في مادة واحدة، هي الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، لقطع الطريق على كثيرين، خصوصا الضغوط الخارجية، التي بلغت ذروتها في الأسابيع الأخيرة، من خلال الانتقادات الحادة لنظام الحكم في مصر، التي نشرتها الصحف الأميركية الكبرى، مثل "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، الأقوى ارتباطا بالإدارة الأميركية، تعبيرا عن مبدأ الرئيس بوش الشهير والقائل دوما، إن مصر التي قادت الشرق الأوسط نحو السلام، عليها الآن أن تقوده نحو الحرية والديمقراطية. وعلى رغم الحرج الشديد الذي تتعرض له الحكومة المصرية، من جراء الضغوط الأميركية والأوروبية المتصاعدة والمطالبة بإصلاح ديمقراطي حقيقي يطلق الحريات، فإنني اعتقد أن الحرج الأشد جاء عمليا من جراء إصلاح ديمقراطي ينبع من رؤى وأفكار المجتمع ويستجيب لمطالبه وأحلامه في التقدم والنمو، ويضمن الحرية والعدل الاجتماعي لكل مواطن، في تواز مع الاصلاحات الاقتصادية التي تجرى، والتي أخذت الأولوية على حساب الإصلاح السياسي والدستوري، مسببة تناقضا غير مقبول. ولعل أهمية تعديل مادة الدستور الخاصة بطريقة انتخاب رئيس الجمهورية، لا تكمن فقط في إعادة حق الانتخاب لسلطة الشعب مباشرة ومن دون وسطاء، لكنها تكمن ايضا في أنها كسرت واحدا من المحرمات "التابو" التي ظلت الحكومة وحزبها الحاكم على مدى سنوات، ترفض بعناد مجرد المناقشة بشأنها أو طرحها على المائدة، وأنها بالتالي تفتح الباب أمام تعديل دستوري شامل يعيد المبادئ الديمقراطية السليمة والمستقيمة إلى الوثيقة الدستورية، في عصر شعاره الحرية ووسيلته الديمقراطية، وفي بلد كان سباقا من ناحية التطور التاريخي والديمقراطي، بإصداره دستور 1923 من رحم ثورة الشعب المصري العام ،1919 وهو أكثر دساتير مصر والبلاد العربية والدول النامية ديمقراطية واستنارة وليبرالية. أهمية تعديل الدستور المصري في مادة واحدة، على رغم أنها مادة رئيسية، تكمن إذا في أن مطالب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأطياف المثقفين، بتعديل دستوري وإصلاح ديمقراطي شامل، أصبحت قريبة المنال بحكم أنها مطالب مشروعة وملحة، بعد أن تخطى الرئيس مبارك عناد الأجنحة المتشددة داخل النظام، وتجاوز رفضها لأي تعديل في الدستور، حفاظا على الوضع القائم في ظل مقولة "الاستمرار مع الاستقرار"، وهي الأجنحة التي نتمنى ألا تنجح في الالتفاف على هذه الخطوة، وتقييدها بضوابط تفقدها معناها. وطالما أن كسر المحرمات قد تم بطريقة ما، فاتحا الباب أمام تعديلات دستورية كانت توصف حتى الأمس القريب، بأنها "دعوات باطلة"، أو أنها تعبر عن ضغوط ومطالب خارجية، فإن المؤكد أن فتح الباب بهذا الشكل يقتضي المضي قدما في طريق الإصلاح والتحديث، وهو طريق طويل لا يتوقف عند خطوة واحدة، إذ أن الدستور المصري نفسه، أصبح غريبا في وطنه، بحكم التطورات السياسية والقانونية والاقتصادية التي حدثت في مصر ومن حولها! والأمر يتطلب بالضرورة مراجعة شاملة، على الأقل لإزالة التناقضات الظاهرة الموجودة في نصوص الدستور، فبعضها على سبيل المثال ينص على أن نظام الحكم اشتراكي يقوم على تحالف قوى الشعب العامل، ويعتمد على قيادة القطاع العام للاقتصاد، بينما الواقع المعاش يقول، إنه تحت التطورات التي جرت على مدى أكثر من ثلاثين عاما منذ صدور هذا الدستور، تغيرت المبادئ والتوجهات الرئيسية، فلم تعد مصر اشتراكية، ولم يعد القطاع العام يقود الاقتصاد ولا تحالف قوى الشعب العامل، وإنما هناك أحزاب متعددة، وتحول نحو الاقتصاد الحر "الرأسمالي" وتم بيع معظم القطاع العام وتصفيته، مع انطلاق قوانين السوق الحرة، وصعود النفوذ المالي والسياسي لرجال الاعمال... الخ. والأمر نفسه ينصرف إلى ضرورة تعديل مواد اخرى في الدستور، وخصوصا تلك التي تتعلق بمدة ولاية الرئيس المنتخب وصلاحياته، مثلما يتطلب الأمر تعديل قوانين مباشرة الحقوق السياسية، و الأحزاب، وقوانين الصحافة والاعلام والجمعيات الأهلية لتحريرها من القيود البيروقراطية المتراكمة التي عرقلت أي تطور وإصلاح ديمقراطي حقيقي على مدى عقود، كما يتطلب وعيا شعبيا عاما ومقاتلا لحراسة الإنجاز وحماية التعديل الدستوري من أعداء الديمقراطية وترزية القوانين. لقد بدأت الخطوة الأولى في طريق طويل... وحين تبدأ السير لا تستطيع أن تتوقف، تماما مثل الزمن.
خير الكلام
يقول أبو تمام: وما من شدة إلا سيأتي لها من بعد شدتها رخاء
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 908 - الثلثاء 01 مارس 2005م الموافق 20 محرم 1426هـ