استقالة حكومة عمر كرامي في جلسة مناقشة جريمة اغتيال رفيق الحريري جاءت في لحظة غير محسوبة في قراءة السلطة اللبنانية للمشهد السياسي. فالسلطة كانت تريد من الحكومة الاستمرار في مواقعها تتحمل وحدها ضربات المعارضة في الشارع ومجلس النواب. وربما توقعت منها المزيد من الثبات لكسب الوقت والتهرب من الإجابة عن السؤال: من قتل الحريري؟ تحملت حكومة كرامي الكثير وتلقت معظم الضربات واستخدمت كل الوسائل الممكنة والمتاحة في احتواء ردود الفعل المتعاظمة محليا وعربيا ودوليا، إلا أن موازين القوى التي تعدلت على الأرض كانت أقوى منها فانكسرت حلقة الحكومة. حكومة كرامي هي الحلقة الأضعف في سلسلة حلقات السلطة وانكسرت ليس بسبب عجزها عن مواجهة الضغوط فقط بل لأنها تحولت إلى غطاء سياسي يحجب الحقيقة عن الأنظار. ولو استمرت الحكومة في انتهاج هذه السياسة لكان بإمكان حلقات السلطة القوية تحميلها لاحقا مسئولية اغتيال الحريري. الاستقالة كانت الموقف الحكيم الوحيد الذي اتخذته الحكومة في عمرها القصير لأنه لم يكن أمامها من خيار آخر سوى تحمل مسئولية الاغتيال معنويا وسياسيا... وهذا لا تستطيع الإقدام عليه فقررت الرحيل تاركة الأزمة أمام مواجهة جديدة بين حلقات النظام القوية وقوى المعارضة في الشارع والبرلمان. انسحاب كرامي من المعركة جاء متأخرا ولكن التوقيت يناسبه لأن استمراره في واجهة الحكم يفرض عليه الرد على أسئلة لا يملك أجوبة عليها. فهو فعلا لا يعرف وحكومته أيضا لا تملك المعلومات الكافية لتفسير ما حدث في ذاك اليوم الذي قلب الطاولة على مختلف أطياف المجتمع اللبناني. بذلت حكومة كرامي كل ما تتمتع به من جهود ومعارف لتبرير ما حصل في 14 فبراير/ شباط الماضي، فشرحت وتكهنت، وأوضحت، وقالت، وردت، وفسرت... وغيرها من كلمات ومواقف وانتهت إلى نتيجة "صفر مكعب". فالكلام أغضب الشارع ولم يقنعه. وكل ما قيل عن ملابسات الجريمة ارتد عليها وباتت في حالات معينة متهمة بارتكاب جريمة هي فعلا ليست مسئولة عن افتعالها. عمر كرامي رجل دولة، وبعض طاقمه الحكومي يتمتع بصفات تمثيلية وليس منعزلا أو غريبا عن السياسة... إلا أن ظروف وزارته جاءت في وقت غير مناسب وفي لحظة تكثفت فيها الضغوط من كل حدب وصوب. وبسبب هذه الفضاءات وقعت الحكومة في مطبات هوائية واهتزت ثقة الناس بها وخصوصا بعد تلك الجريمة التي هزت العالم. كرامي هو شخص مناسب في وقت غير مناسب ولذلك قرر في لحظة الامتحان الصعب أن يحفظ كرامته وينسحب تاركا للحلقات القوية في السلطة اللبنانية الرد على أسئلة النواب والشارع. استقالة كرامي ليست حلا للمشكلة. فحكومته أصلا لم تنتج الأزمة وإنما الأزمة أنتجتها. والأزمة كبيرة جدا وهي بدأت تتوالد وتتكاثر منذ اتخذ ذاك القرار/ الخطأ بتعديل الدستور والتمديد للرئيس. قرار التمديد هو "أم الأخطاء" والقاطرة التي أسهمت في تفريخ سلسلة قاطرات مشدودة إلى رأس الأولى واضعة من جديد الأزمة اللبنانية على سكة التدويل. وحين بدأ القطار بالتحرك جاء كرامي إلى الحكومة بعقلية لم تلحظ ذاك التحول الذي دخل على الأزمة وفتح أبوابها على منطقة تعصف بها الرياح من الجهات الأربع. فالحكومة تعاطت مع مأزق الأزمة بعقلية محلية وحسابات ضيقة ولم تدرك إلا متأخرة تلك الأبعاد الخطيرة التي اشتملتها فقرات القرار .1559 بدأت الحكومة عملها وكأنها غير معنية بالقرار الدولي. حتى أن رئيسها رفض مرة الإجابة عن سؤال يتعلق بشأن الجهة المراد منها تنفيذه. وأدى التجاهل إلى توليد سلسلة أخطاء أسست خنادق من الكراهية بين وزراء حكومة وأطراف معارضة انتهت إلى مقتل الحريري. بعد غياب الحريري ازدادت الضغوط والمراقبة الدولية اليومية للشأن اللبناني. وكان من الصعب على الحكومة أن تتصرف مع جريمة الاغتيال بعقلية سلبية من دون أن تلقى ردود الفعل التي شهدها لبنان. فهي كان عليها أن تتخذ سلسلة مبادرات وإجراءات وخطوات على سوية الحادث. وهذا ما لم تفعله، الأمر الذي جعلها تواجه كل التداعيات التي أسفرت عنها جريمة الاغتيال. حسنا فعل الرئيس كرامي فهو الحلقة الأضعف في سلسلة السلطة وتحمل عنها الكثير وكان يجب عليه ألا يفعل حتى لا يضع حكومته في موضع المساءلة. استقالة كرامي جاءت متأخرة وفي لحظة غير محسوبة ولكنها في النهاية كانت خطوة لابد منها لأنها على الأقل تساعد على قراءة أوضح للخريطة السياسية اللبنانية التي اختلطت أوراقها منذ التمديد وانتهاء بالاغتيال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 908 - الثلثاء 01 مارس 2005م الموافق 20 محرم 1426هـ