يعتبر التوافق والإجماع الوطني بشأن شئون الوطن الداخلية أمرا بالغ الأهمية للأمن والاستقرار السياسي في جميع الأحوال. ونلمس ذلك في حالة الاستقرار والسكينة في دول تأسست وفق مبدأ الإجماع الوطني حول مسائل تتعلق بالعدالة والمواطنة المتكافئة. فقد تمكنت ماليزيا مثلا من حسم مسألة المواطنة المتكافئة بين مختلف الإثينيات والأديان المكونة للمجتمع بفعل التوافق على نبذ الاستئثار، فأنجزت مشروعا وطنيا للتعايش بين القوميات المختلفة في اللغة والدين والثقافة. وهكذا فعلت أمم أخرى كالاتحاد السويسري والولايات المتحدة الأميركية وكندا.
تحمل عدة معاني من ضمنها الاتفاق العام بين أفراد المجموعة على Consensus كلمة التوافق أن يمارس جميع أعضاؤها قدرا من الحرية في عملية صنع القرار وكذلك في متابعة تنفيذه.
وهذا يتطلب المعاملة الجادة لمختلف الآراء المطروحة. وعندما تتفق المجموعة على قرار معين يلتزم الجميع بمتابعة تنفيذه. فالتوافق يتطلب توفير الأجواء لسماع وجهات النظر المعارضة ضمن المجموعة مما يوفر الأرضية المناسبة للحوار والتوافق، وكذلك التقليل من المسائل المختلف عليها، ويمنع من التسبب في إلحاق الضرر بالعلاقات بين أفراد المجموعة. والتوافق لا يعني المقايضة، أي أن يتخلى فريق عن امتياز أو ما يعتقده حقا له مقابل تنازل الطرف الآخر عن شيء يعادله، بل يعني بناء وتطوير العلاقة بين مختلف الأطراف لتمكينهم من العمل سويا للتوصل إلى اتفاق مبني على الرغبة في التعايش والالتزام به.
يرى المؤيدون لمبدأ التوافق أن الديمقراطية وهي حكم الأكثرية تعني هيمنة الأكثرية على الأقلية واحتمال اضطهادها مما حمل بعض المحللين على تسميتها باستبداد الأكثرية المهيمنة، من هنا برز مفهوم التوافق للحد من هيمنة واستبداد الفئة المنتصرة وذلك بإتاحة الفرصة لتمثيل المجموعات الأخرى في عملية صنع القرار والتي تصبح بالتوافق نتاجا لرغبة المجتمع بأكمله.
إن تحقيق التوافق عملية في غاية الصعوبة ويستغرق وقتا طويلا قد لا تتحمله بعض المؤسسات المعنية مصالحها بسرعة صنع القرار. وتزداد المآخذ على منهجية التوافق في بيْة تتضارب فيها المصالح لدرجة يصعب التوفيق بينها بسبب بروز نزعة الاستئثار التي تعتبر المعوق الرئيسي للديمقراطية والتوافق على حد سواء. وهي الحالة التي تعيشها مجتمعات ابتليت بسببها بنزاعات استنزفت مواردها وجعلتها عرضة للتدخلات الخارجية.
ولتجنب الخوض في النماذج المختلفة للديمقراطية ومفهوم التوافق كما استعرضها علماء السياسة وأساتذة الفلسفة نكتفي هنا باستعراض مفاصل من تاريخ البحرين الحديث توصلنا فيه إلى إجماع وتوافق وطني حول مسائل مصيرية هي في غاية الأهمية لمستقبل الوطن وهويته. المفصل الأول هو توافق وإجماع أهل البحرين على صون استقلال الوطن والحفاظ على هويته مقابل الإدعاءات الإيرانية. ولو اختلف أهل البحرين على تحقيق هذا التوافق لأصبحنا على غير ما نحن عليه الآن. ومثل هذا الإجماع الوطني على عروبة البحرين تجدد مؤخرا حينما حاول بعض الساسة في إيران جس نبض أهل البحرين في هذا الوقت العصيب بالذات، فإذا به على رغم تغير الزمان والأحوال واقف متوافقا ومتماسكا بشأن هويته وشرعية نظامه السياسي.
إن التوافق على هوية الوطن لا يجب الانتقاص منه حتى في أضيق الحدود. وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤلات مشروعة تتعلق بمدى وجاهة منح شرف وحقوق المواطنة لأقوام من جنسيات وثقافات مختلفة، وبمدى تناسق هذا السلوك مع ما تحقق من إجماع وطني حول هوية الوطن، وفيما إذا كان هذا النمط من التوطين يشكل خطرا موازيا للخطر الذي كان قائما قبل تحقيق ذلك الإجماع الوطني. إن وجاهة هذه التساؤلات تفرضها الظروف الإقليمية واشتداد عود بعض الدول التي ينتمي إليها البحرينيون الجدد الذين لا يتعدى انتماء كثير منهم للبحرين نزعة الاسترزاق، في حين تختفي من ذلك فطرة الانتماء الثقافي ووحدة المصير. كما تصبح هذه التساؤلات أكثر وجاهة في ظل القوانين الدولية التي لا تعترف بالهوية والحدود الجغرافية إلا للأقوياء، وتفرض العولمة ولكن في حدود مصالحها، في حين ينخدع البعض منا ليردد مقولة خطيرة تتعلق بتحويل البحرين إلى مجتمع كوزمو بوليتينى، وهي الدرجة التي لم تبلغها حتى المجتمعات التي تروج لمثل هذه الأفكار. إن هذه التساؤلات التي باتت مصدر قلق لنا جميعا جديرة بالتأمل فلعل الوقوف عندها يحفزنا على ترجيح كفة الإجماع الوطني بِِِشأن قضايا مصيرية، ويعيد الاعتبار لما أنجزناه في الماضي من توافق.
الحدث المفصلي للآخر هو التوافق بين القائد وشعبه على ميثاق للعمل الوطني استند في نصوصه على مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة المتكافئة ونبذ الاستئثار. وهذا التوافق هو نتاج رغبة ونية جماعية صادقه للتعايش. والتساؤل المشروع هنا يتعلق بمدى وجاهة اعتبار الانتقاص من تطبيق هذه المبادئ تقويضا للتوافق والخيار الجماعي للتعايش. وهل ينقلنا هذا الانتقاص إلى دائرة خطر مشابهة لتلك التي أحدقت بنا قبل إنجاز التوافق؟
إن الاستئثار والتعايش أمران لا يلتقيان كما أنه ليس بوسعنا أن نكون إصلاحيين وإقصائيين في آن واحد، فالتململ والضيق من قسوة ظاهرة الاستئثار والإقصاء أمر لا تخطأه العين. ومهما كانت طبيعة المبررات والباسها ثوب انعدام الثقة والخشية من الارتباط بالخارج فإن أطماع الخارج لا يمكن صدها بتكريس الاستئثار وخلق الأجواء الطاردة للتعايش الذي أنجزناه في مفاصل عدة من تاريخنا الحديث.
في إشارة إلى الدعوة للحوار التي أطلقها الرئيس الأميركي أوباما تجاه إيران يقول جريم بازمان، المسئول السابق في الخارجية الأميركية والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن في حديث لقناة الحرة بتاريخ 22 مارس/ آذار 2009 إن إبعاد الشعوب عن الحكومات لا يضعف نفوذ القوى الخارجية بل يقويها، في إشارة إلى تنامي نفوذ إيران، فهذا التباعد يوفر مفاتيح لهذه القوى تجبر الدول العظمى للبحث عنها لدى من يملكها. وهذا هو الواقع الذي بدأ يتبلور في منطقة الشرق الأوسط.
لقد أنجزنا في الماضي القريب أكثر من مشروع مصيري للتوافق والإجماع الوطني مكننا من صون هويتنا واستقلالنا، وحققنا من خلاله التعايش الذي وفر لنا الاستقرار والطمأنينة. فحري بنا في ظل هذه المتغيرات الإقليمية والدولية عدم التقليل من شأن ما أنجزناه أو التفريط ولو بجزء يسير منه مهما استبدت بنا الهواجس وتلبست ببعضنا نزعة الاستئثار.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 2399 - الثلثاء 31 مارس 2009م الموافق 04 ربيع الثاني 1430هـ