تحول لبنان بعد حادث اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري إلى ساحة تجاذبات إقليمية وعربية ودولية تتنافس على احتواء الأزمة خوفا من انفجارها واحتمال انتشارها إلى خارج حدود البلد الصغير. فكل القوى الآن متسلحة بقرار شرعي وكل تيار يمتلك الآن قراره الخاص الذي يتحرك على اساسه ويطالب الحكومة بأن تتحمل مسئوليتها السياسية والمعنوية.
لبنان الآن لم يعد على الحال التي كان عليها قبل وقوع جريمة 14 فبراير/ شباط الماضي. فالأمور تغيرت بسرعة وتفاعل مسرح الجريمة مع الكثير من المعطيات الدولية والعربية والإقليمية. فالحكومة التي سارعت إلى تجهيل الفاعل لم تعد قادرة على الاستمرار في تلك السياسة إلى وقت طويل وخصوصا ان مجلس الأمن سيعود إلى التحرك والاجتماع بعد ثلاثة اسابيع للاستماع إلى تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية. فهذه اللجنة مكلفة ليس بالتحقيق الجنائي "البوليسي" وانما بشرح ملابسات حادث الاغتيال أي انها مكلفة برفع تقرير سياسي عن المسألة اللبنانية. وهذا في الأخير لا يصب في مصلحة الحكومة وخصوصا انها تورطت في تصريحات عنيفة ضد المعارضة وصلت إلى حد التخوين والارتباط بالأجنبي والمراهنة على الخارج اضافة إلى جملة اوصاف ونعوت بررت للقاتل ان يرتكب جريمته.
الحكومة كما يبدو تراهن على الوقت بينما الوقت لا يعمل لصالحها. وهذا يستدعي منها تحمل مسئولياتها مباشرة أو تتنحى تاركة الفرصة لغيرها للعمل على توفير المناخ المناسب للتحقيق وتنظيم الانتخابات النيابية في مايو/ أيار المقبل.
الوقت إذا لا يعمل لمصلحة الحكومة كذلك الضغوط الدولية التي تمارسها عواصم القرار في مجلس الأمن وتدفع باتجاه تطبيق القرار 1559 أو استكمال تنفيذ ما تبقى من بنود في اتفاق الطائف.
لا خيار ثالثا للحكومة اللبنانية. فهي اما ان تسارع بالتعاون مع دمشق إلى تنفيذ اتفاق الطائف قبل نهاية الشهر الجاري أو انها ستفتح الأبواب مجددا للمزيد من الضغوط الدولية لتنفيذ القرار .1559 والأفضل للحكومة بين الخيارين هو اتفاق الطائف الذي يبدو ان هناك ما يشبه التوافق اللبناني عليه. بينما القرار 1559 لا يلقى ذاك التأييد نظرا لتشدده وتطرف فقراته التي لم تلحظ دقة التوازنات الداخلية. فالقرار الدولي يدعو اللبنانيين ببساطة إلى العودة إلى خنادق الاقتتال والتضارب الداخلي وخوض سلسلة مواجهات لا نهاية لها ضد مكونات اساسية في التركيبة اللبنانية.
السباق إذا بدأ يشهد لحظاته "محطاته" الأخيرة في لبنان بين التعريب "اتفاق الطائف" والتدويل "القرار 1559" وعلى الحكومة ان تحسم خياراتها الميدانية لا اللفظية وتتخذ سلسلة إجراءات واعية وواعدة بالتفاهم مع سورية حتى لا تنقلب الطاولة باتجاه التدويل.
التجاذبات السياسية على الساحة اللبنانية بين التعريب والتدويل يمكن ملاحظتها من الحركتين الدبلوماسيتين: الأولى أميركية - فرنسية. والثانية: سعودية - مصرية. الأولى تضغط باتجاه التدويل مستخدمة القرار 1559 والثانية تضغط باتجاه المحافظة على صيغة التعريب المتمثلة باتفاق الطائف.
وبين التدويل والتعريب اخذ يتمظهر سياسيا ما يمكن تسميته بمشروع توفيقي يجمع بين التيارين ويضمن مختلف مصالح الأطراف المعنية بالمسألة اللبنانية وتجربته العريقه الممتدة تاريخيا.
التيار الثالث يحاول الجمع بين الماء والنار. أي بين اتفاق الطائف الذي وضع لإطفاء الحريق اللبناني وبين القرار 1559 الذي يستهدف اشعال الوضع اللبناني. فالتيار الثالث تبلور بعد جريمة الاغتيال وهو يحاول ان يوفق المصالح ويرتب العلاقات من دون غالب أو مغلوب. وهذا ما عبر عنه مرة المبعوث الدولي تري رود لارسن حين قال إن القرار 1559 لا يتعارض في الجوهر مع اتفاق الطائف. وهذا أيضا ما كرره وزير الخارجية السوري فاروق الشرع حين ذكر في القاهرة أن تطبيق اتفاق الطائف بحذافيره هو تنفيذ للقرار 1559 بطريقة غير مباشرة.
إذا هناك صيغة جديدة أخذت تتبلور تنظيميا وهي تنتهج سياسة وسطى بين التدويل والتعريب معتمدة المبدأ الآتي: لا تعارض في الجوهر بين اتفاق الطائف والقرار ،1559 فاذا نفذ الأول طبق الآخير.
يشهد لبنان اليوم تحولات كثيرة بعد حادث الاغتيال واهم تلك التحولات هو تبدل موازين القوى على مسرحه السياسي. وعنوان التغير هو التوفيق بين التعريب والتدويل من خلال إزالة اوجه التعارض بين الطائف والقرار .1559 فهل تنجح المحاولة وتكسب الوقت ام ان الوقت استبق التنافس وباتت الكفة تميل إلى التدويل؟ هناك أربعة أسابيع لمعرفة اتجاهات العواصف
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 907 - الإثنين 28 فبراير 2005م الموافق 19 محرم 1426هـ