التضارب في المعلومات بشأن الطرف المسئول عن تنفيذ "عملية تل أبيب" اعطى إشارات سياسية جديدة لها صلة بالمتغيرات الإقليمية التي ظهرت اثر الاجتياح الأميركي للعراق والتهديدات المستمرة ضد دول الجوار. فالتضارب في المعلومات هو في نهاية الأمر بداية اختلاط في الأوراق. فبعد أن كانت فصائل المقاومة الفلسطينية تتنافس في السابق على إعلان المسئولية والتفاخر في تبني هذه العملية أو تلك تحول فجأة إلى مناسبة للتنصل من المسئولية وتحميل كل فريق الآخر وقوفه وراء العملية.
الرئيس الفلسطيني مثلا سارع إلى إدانة العملية واتهم "طرفا ثالثا" بالتخريب على مصالح الشعب والتزاماته بشأن الهدنة وما يترتب عنها من مكاسب متوقعة. الفصائل الفلسطينية العاملة في الداخل تبنت العملية ثم تراجعت عن إعلان مسئوليتها وانكرت التهمة وأكدت التزامها بالهدنة واشارت إلى احتمال وجود "طرف ثالث" أو جهة مجهولة تريد الاساءة أو تعطيل التفاهمات السياسية مع شارون.
لم يقتصر التضارب في المعلومات على الجانب الفلسطيني بل دخلت "إسرائيل" على الخط وأخذت بتوجيه الاتهامات إلى كل الجهات. فالمصادر الإسرائيلية على أنواعها اعطت إشارات متناقضة، فهي ذكرت أن "شهداء الأقصى" تقف وراء العملية، ثم تراجعت واتهمت "سرايا القدس" ثم اتهمت جهات فلسطينية متمردة على سلطة عباس. ولم تتردد "إسرائيل" في تحميل السلطة الفلسطينية مجتمعة بالتقصير والمسئولية. ثم نقلت اتهاماتها ووسعت من دائرة العملية الجغرافية فاتجهت إلى عدم استبعاد دور ما لحزب الله في العملية، ثم استبعدت الاحتمال من دون ان تسقطه وصولا إلى اتهام "الجهاد الإسلامي" في طولكرم بالتنسيق مع المنظمة الام في دمشق. وبعد أن استقر الاتهام على دمشق سارع وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز إلى تحميل سورية المسئولية معلنا حال التأهب ورافعا الاستنفار العسكري إلى درجة ما قبل إعلان الحرب.
وفي بيروت ودمشق حصل التضارب في المعلومات أيضا وأرسلت إشارات سياسية متناقضة احدثت إرباكا في القراءة الدقيقة للجهة الفاعلة والفصيل المنفذ والطرف المستفيد من تداعياتها الإقليمية. في لبنان مثلا نفى حزب الله علمه أو علاقته بالعملية، كذلك نفت "الجهاد الإسلامي" مسئوليتها ولم تسحب "سرايا القدس" إعلان مسئوليتها. وفي سورية أيضا نفت دمشق علمها أو مسئوليتها وذكرت أن مكاتب "الجهاد" مقفلة في أراضيها منذ وقت.
الكل اتهم الكل. وكل فريق تنصل من مسئوليته وحاول تحميل غيره مسئولية العملية أو على الأقل حاول نفي التهم المنسوبة اليه من هذا الطرف الرسمي الفلسطيني أو من ذاك الطرف الأمني الإسرائيلي.
هذا التضارب في المعلومات وما يحمله من محاولات تنصل من المسئولية هو الجديد في الموضوع وهو ما يجب ملاحظته سياسيا بغض النظر عن تحديد الجهة المسئولة التي استقرت عليها محصلة الاتهامات. فالجديد هو انتقال الفصائل من زاوية التنافس على تبني العمليات العسكرية إلى زاوية التنافس على نفي "عملية تل أبيب" وكأن النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي أصبح تهمة تستدعي البراءة منها.
الانتقال إذا من زاوية إلى أخرى مضادة للأولى يكشف عن وجود تحولات جديدة في الرؤية أو على الأقل بدء ظهور وجهة نظر مغايرة تحتاج إلى وقت للتأمل قبل تبلورها في نظرية سياسية لا يعرف ما هو المدى الاستراتيجي الذي ستصل اليه ولا الهدف الذي ترمي تحقيقه من وراء النفي والتنصل.
المهم ان حفلة الاتهامات المتبادلة مرت على خير واتضح اللون الأبيض من خلطة الوان خرجت إلى الاعلام والمرئيات والفضائيات دفعة واحدة. وهذه الخلطة تشير إلى بدء نمو اختلاط جديد في الرؤية الاستراتيجية لمسألة فلسطين وقضية الصراع العربي - الإسرائيلي وتفرعاته وتداخلاته. كذلك تشير إلى وجود مؤشر يقرأ بمنظار مختلف معنى إعلان المسئولية عن مواصلة الكفاح المسلح. والقراءة الجديدة لم تعد تكتفي بتكتيك الصراع وانما بتداعياته الاستراتيجية. فكل فريق له أسبابه ومبرراته. السلطة الفلسطينية تخوفت من أن تكون محاولة إسرائيلية للتنصل من الانسحاب من قطاع غزة. وحزب الله تخوف من أن تكون محاولة إسرائيلية لتبرير عدوان مبيت على الجنوب وقواعده. ودمشق تخوفت من أن تربط تلك العملية بالاتهامات الموجهة إليها في ضوء اغتيال رفيق الحريري والضغوط الدولية لتنفيذ القرار .1559 وهكذا. لكل فريق ذريعته التي دفعته للمسارعة إلى نفي التهمة.
وفي المجموع العام يمكن ربط كل ذاك التخبط في المعلومات وجمع تضارباته في صورة مشتركة تقول بوضوح إن هناك تصورات جديدة بدأت بالظهور وتحتاج إلى وقت للتبلور في صيغة مختلفة عن الصيغ الكثيرة التي تعرفنا عليها سابقا في إطار الصراع مع الصهيونية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 906 - الأحد 27 فبراير 2005م الموافق 18 محرم 1426هـ