"إنني كعالم اجتماع إيراني عمل لسنوات طوال في الميدانين الوطني، المحلي والدولي، من أجل السلام والتفاهم بين الأمم وضمان الحرية في بلادي أقول لكم مساندتكم لنا! توجه لطمة كبيرة لحركة الديمقراطية في بلادي، وهي الحركة التي على رغم المعوقات الكثيرة تسير نحو الامام".
ورد هذا الكلام في رسالة اعتراض مفتوحة للمفكر الإيراني الليبرالي المخضرم احسان نراقي إلى رئيس تجمع الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأميركي Rick santroum ، الذي قدم مشروعا الأسبوع الماضي يقضي بدعم ما سماه بـ "حركة تحرير إيران" الذي يتضمن فيما يتضمن تخصيص مبلغ 10 ملايين دولار لهذا الغرض. ويضيف عالم الاجتماع الإيراني المشهور - الذي لم يعرف عنه ابدا اية ميول "أصولية" أو "راديكالية" أو حتى موالية للنظام الحالي بل على العكس قربه من عائلة الشاه في العهد السابق - موجها كلامه إلى السناتور الأميركي المذكور قائلا: "أقول لك هذا وأنا مواطن إيراني لي من العمر 78 عاما، بان الشعب الإيراني ممتعض من حكومات الولايات المتحدة الأميركية لسببين رئيسيين هما أولا المساهمة الأميركية المعلنة في الانقلاب على حكومة محمد مصدق الوطنية والديمقراطية في اغسطس/آب من العام 1953 دفاعا عن المبراطورية البريطانية بسبب تأميمه لشركة النفط الانجلو ايرانية، واستبدالها ذلك بحكم عسكري قامع للحريات. وثانيا بسبب عدم الوقوف على الحياد في النزاع بين فلسطين و"إسرائيل" إذ ظلت الأخيرة أكثر من 50 عاما وهي تضرب عرض الحائط أنواع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة وتستمر في ممارسة اشكال العنف والقمع ضد الشعب الفلسطيني".
احسان نراقي الذي عمل مستشارا للأمين العام لمنظمة اليونيسكو منذ العام 1986 حتى العام 2000م، سجل في بداية رسالته المفتوحة ايضا القول: "إنني استطيع أن اؤكد لك أن رأيي هذا انما يمثل إلى حد كبير رأي ولسان حال الكثير من المثقفين الإيرانيين".
وفعلا فإن رأي نراقي يمثل الواقع ليس فقط رأي شريحة واسعة من أصحاب الرأي والفكر في إيران بل قطاعا واسعا من ابناء الأمة الإيرانية العريقة في معتقداتها الوطنية والديمقراطية والاصلاحية.
وهنا ربما بيت القصيد الذي اراد عالم الاجتماع الإيراني ان يوصل فحواه إلى من يهمه الأمر في الولايات المتحدة الأميركية المشغولة هذه الايام في توزيع الاملاءات والتعليمات على هذه الدولة أو تلك من دول العالم ومنها إيران طبعا، باعتبارها "العقبة الكؤود أمام برنامج الاصلاحات وتعميم الحريات في الشرق الأوسط الكبير وراعية الإرهاب الأولي في المنطقة".
إن هذا القلب المفضوح للحقائق وهذا التشويه المقصود لحال الأمم من جانب مدرسة المحافظين الجدد بشكل خاص بدأ يغيظ حتى أصحاب المدرسة الليبرالية والديمقراطية القريبة في إيران وبعض دول العالم العربية والإسلامية. كما ان نقاشات موسعة بدأت تأخذ مداها على امتداد المشهد الثقافي والسياسي الإيراني عن حقيقة اهداف الإدارة الأميركية من مشروعها القاضي بإعادة رسم خريطة المنطقة. فبعدما انكشفت الكثير من الحقائق الاقليمية والدولية لاسيما بعد تجربتي افغانستان والعراق بدأت تتساقط الكثير من الرموز المحلية الإيرانية التي ظلت تتدثر بعباءة الرئيس محمد خاتمي الإصلاحية في دورته الرئاسية الأولى، ومن لم "يتساقط" لوحده في الدورة الأولى من "صقور الإصلاحيين" ممن وقفوا على يسار الرئيس خاتمي اضطر خاتمي للتخلي عنهم هو شخصيا في الدورة الثانية، واخذ خطابه الشخصي ينحى منحى مختلفا تجاه واشنطن والغرب عموما بعدما اتسم "بالتسامح" والاعتدال و"الوسطية" في مجمل خطاباته اثناء الدورة الأولى.
خاتمي الذي ظل حريصا في البداية على عدم استفزاز الغربيين والأميركيين في اطار مبادرته المعروفة بحوار الحضارات ونزع فتيل التوتر في العلاقات الدولية اضطر أخيرا ان يهاجم ثقافة "البعد الواحد" الغربية في أكثر من موقع بل ويوجه اللوم إلى جذور تلك الثقافة ووضعها في خانة "الثقافة التي افرزت سيولا من العنف والدماء وصلت حتى الركب في وقت كنا نحن المسلمين نقدم مشروعا نموذجيا في التسامح والاعتدال" كما جاء في أحد خطاباته النارية في منطقة كردستان الايرانية امام جمع من الجامعيين والمثقفين. هذا إلى أن وصل به الأمر أخيرا ليصرح علنا امام جمع مماثل في طهران بالقول: "ان من يظن أن الاميركيين انما هم بصدد نشر الحريات والديمقراطية في بلادنا مخطئ تماما انهم يريدون ابتلاعنا".
رب سائل يسأل هنا، ماذا جرى حتى يحصل هذا التحول في الخطاب الإيراني الهادئ والمعتدل لاسيما عندما يصل الأمر حتى إلى عالم الاجتماع الإيراني الليبرالي الشهير الذي يتهمه الاصوليون الايرانيون بأنه كان يعمل مستشارا لدى فرح ديبا وزوجها الشاه المخلوع؟!
الجواب بسيط جدا. انه الاستعلاء والعنجهية والنظرة الآحادية الفوقية والاصرار على معرفة كل الحقائق عن الجميع على رغم الجهل الفاضح بأكثر حقائق التاريخ والجغرافيا والمجتمع في وطننا العربي والاسلامي على الاقل من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة لاسيما المتولى عليها أخيرا من قبل المحافظين الجدد، فالإدارة الأميركية الحالية ينبغي عليها ان تعرف على الأقل أوليات حركة المجتمع الإيراني المعاصر التي ابرز سماتها ما يأتي:
أولا: ايران دولة رائدة في حركة التحرر الديمقراطي الدستوري منذ بدايات القرن العشرين. "الثورة الدستورية 1906م".
ثانيا: لقد تعثرت هذه الحركة الرائدة مرتين على الأقل بفعل دعم امبراطوريتين استعماريتين مرة العام 1924 على يد الامبراطورية البريطانية التي اجهضت الحركة الدستورية لتأتي برضا خان ملكا منصبا مدعوما من الخارج. والأخرى العام 1952 كما مر ذكره عندما أرادت امبراطورية ثانية هي الولايات المتحدة تجربة ديمقراطية أخرى رائدة لتنصب حكما عسكريا قمعيا آخر وتفرض شاها آخر هو محمد رضا بهلوي.
ثالثا: ان رجال الدين والعلماء الذين يصر بوش الثاني في كل خطاباته على ذكرهم بالاسم باعتبارهم "العقبة الكؤود" كانوا دائما في طليعة الأحرار والمناضلين من أجل الحرية والديمقراطية في بلادهم.
رابعا: ان حركة الإمام الخميني وثورته التي نجحت في 11 فبراير/شباط من العام 1979 كانت بالاساس حركة اصلاحية سلمية ديمقراطية نالت اجماع الشعب والتيارات السياسية في البلاد آنذاك مقابل تيارات عنفية استئصالية كانت ولاتزال تحظى بدعم واسناد الغرب والأميركيين حتى بعد أن تحولت إلى مجموعات ومنظمات ارهابية بحسب وصف الأميركيين لهم.
خامسا: ان ما يجري في إيران اثناء الـ 25 سنة الماضية من تحولات داخلية حيوية ديناميكية اصلاحية متجددة هي في الواقع "حركة ديمقراطية حرة أصيلة" كما يقول عالم الاجتماع الإيراني الآنف الذكر والمعروف ان غالبية قياداتها من بين رجال الدين ايضا. والذين يريدون العمل: "تحت سقف وظل دستور البلاد" كما ورد في رسالة العالم الإيراني المفتوحة إلى الرئيس تجمع الجمهوريين.
هذا غيض من فيض ينبغي أن يجهد الأميركيون من صناع القرار ان يدركوه قبل فوات الأوان. وهو لسان حال شريحة واسعة من المثقفين الايرانيين التي تطالب بالتحول السلمي الديمقراطي من الداخل وعلى يد ابناء الداخل بعيدا عن وصاية الخارج وانتداباته المخلة بالتوازن والمنطقة والاستقلال الحقيقي.
رئيس منتدى الحوار الإيراني - العربي
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 905 - السبت 26 فبراير 2005م الموافق 17 محرم 1426هـ