في قضية لم تثر الكثير من الاهتمام، يدور جدل بين وزارة الشئون الاجتماعية ويافعين من مؤسسي جمعية الطفل البحريني بشأن إشهار الجمعية.
الوزارة تعترض أو ترى أن المؤسسين يجب ألا تقل أعمارهم عن 18 عاما طبقا للقانون. أما مؤسسو الجمعية، فيرون أن معاهدة حماية حقوق الطفل التي صدقت عليها البحرين، تنص في المادة 15 منها على أن: "تعترف الدول الأطراف بحقوق الطفل في حرية تكوين الجمعيات وفي حرية الاجتماع السلمي".
وإذ كنت قرأت في 19 من هذا الشهر تصريحا في صحيفة محلية عن هذا الخلاف، بادرت إلى البحث في الموضوع فاتصلت برئيس اللجنة التحضيرية للجمعية نواف المسقطي لغرض أساسي هو معرفة عمره. تبين أنه في السادسة عشرة من عمره، عدا أنني لم أشعر أنني أتحدث مع طفل أو يافع بحريني نموذجي.
كنت أتحدث إلى يافع هادئ يتكلم بسلاسة ومن دون لعثمة أو تأتأة، ويستخدم الكلمات في موضعها الصحيح. لم ألمس نبرة ادعاء أو نبرة تلميذ شاطر يحفظ الدروس عن ظهر قلب، بل شخص يعرف بالضبط ماذا يقول، لكن الجدل الآن يتعدى نواف المسقطي وذكائه وذكاء رفاقه مؤسسي الجمعية ويتعدى الوزارة ووزيرتها التي قادتها إلى حقيبة الوزارة كفاءتها الأكاديمية... فمرجع الخلل هو القانون.
وإذا ما تعلق الأمر بالقانون، أي قانون، فإن الأمر يتعلق دوما بالمفاهيم والمقاربات. بإمكاننا أن نحوز منظومة كاملة من القوانين والتشريعات واللوائح التي تنظم الحياة والنشاط في كل مجال ولا تترك شاردة ولا واردة أو أي مجال للسهو، لكن القوانين نفسها توضع لغرض وتتأسس على مفهوم أو هدف أو مجموعة أهداف محددة.
الأمر غاية في البساطة: ماذا نريد من القوانين؟ القانون كمادة للتنظيم والضبط ليس غاية في حد ذاته، والتنظيم والضبط يتأسس بالدرجة الأولى على مفاهيم، مفاهيم تحدد طريقة تفكيرنا ومقاييسنا الأخلاقية والسياسية التي ستدفعنا لصوغ القوانين أيا كانت.
صدر قانون الجمعيات في العام 1989 أو بالأصح تم تعديل بعض فقراته بحيث وزع المسئوليات بين وزارات الدولة في تبعية الجمعيات والأندية بحسب نشاطها. لكن ألا يستوقفكم التاريخ: 1989؟
ففي ذلك العام كان الاتحاد السوفياتي مازال قائما وكانت مفاهيم الحرب الباردة مازالت سائدة. ولم يحتل العراق الكويت، ولم تظهر شبكة الانترنت وجورج بوش الأب لم يكن قد بدأ الحديث عما أسماه "النظام العالمي الجديد" ولم يظهر مطربو الفيديو كليب العرب بهذه الكثافة ولم تنتشر مطاعم الوجبات السريعة إلى هذا الحد ولم يكن "المول" كأحد أشكال الاستهلاك الشره قد ظهر بعد.
في ذلك العام سقط سور برلين، لكن اليوم لا أحد لدينا يتذكر من أسوار أو جدران ستنهار سوى جدران المنازل الآيلة إلى السقوط. هل تذكرون شيئا من هذا كله؟ كلا طبعا لأن ما يفصل بيننا وبين 1989 هو 16 عاما بالضبط. كان الأمر سيكون هينا لولا أن هذه الأعوام الستة عشر شهدت من الحوادث وانقلاب المفاهيم ما يجعل تلك الحوادث ذكريات غائرة بل أشبه بالمعلومات التي محاها فيروس أصاب أجهزة الكمبيوتر.
الأهم من هذا كله: كنا نعيش مرحلة واليوم نعيش مرحلة أخرى. وإذا ما جئنا لحرية تكوين الجمعيات، ففي تلك المرحلة، كان خوف الحكومة وهاجس الأمن يغلب على كل شيء ويطبع القوانين بطابع الوصاية والرقابة الشديدة. قوانين كانت تفترض سوء النية فتعمد دوما إلى وضع القيود، البعض يسميها "ضوابط" ولو شئنا الجدل اللغوي فإن هذه المفردة الأخيرة ستقودنا لا محالة بعد تصفح القواميس إلى مفردة "الضبط".
حتى اليوم فإن القوانين لاتزال تتأسس على مفهوم الضبط. فبموجب القانون يمنع تأسيس الجمعيات إلا بشروط. وبموجب القانون ثمة حفنة من الموظفين تتسلم الرواتب من خزينة الدولة لكي تقرر ماذا نقرأ وماذا يجب ألا نقرأ. وبقوة القانون ثمة من سيلفت نظرنا إلى ما هو مسموح أن نفكر فيه وما هو غير مسموح أن نفكر فيه. وفي حالنا هذه مع جمعية الطفل البحريني، فإن القانون يمنع اليافعين من تكوين جمعياتهم إلا عبر جمعية أكبر "للراشدين الذي يحظون بالتراخيص طبعا" أو أن يكونوا بلغوا الثامنة عشرة.
لم يستوقف أحدا في هذا الجدل أن هؤلاء اليافعين وصلوا في حججهم إلى حد إثارة قضية تشغل القانونيين في العالم كله: تنازع القوانين. تنازع القوانين الدولية والقوانين الوطنية. ولم يستوقف أحدا أن يكون لدينا يافعون يفكرون على هذا النحو في تنظيم أنفسهم في جمعية تدافع وتحمي الأطفال واليافعين وتسعى إلى نشر الوعي بشأن حقوقهم. لم يستوقف أحدا أن الجدل بين مؤسسي الجمعية والوزارة كان جدلا قانونيا وأن العقبة بالنسبة إلى الوزارة تتعلق بنص قانوني، وعليه فقد أحيل تنازع القوانين الى المستشارين القانونيين لكي يقرروا فيه. وإذا لم يجد هؤلاء مناصا من الأخذ بوجهة نظر المدرسة التي تنتصر لأولوية القوانين الوطنية على القوانين الدولية، فإنهم لن يفعلوا "انطلاقا من القانون طبعا" سوى أن يحبطوا مساعي نخبة من اليافعين الجادين ويخلقوا صداعا جديدا للدولة اسمه تعارض قوانينها مع الاتفاقات الدولية.
الخلاصة، أن القانون مازال يتعامل مع الأطفال كقاصرين يتعين ضبطهم دوما عبر وصاية الراشدين، في البيت كما في الحياة العامة ولا يفسح المجال لطاقاتهم وإبداعاتهم بالظهور إلا تحت وصاية.
هل يقتصر الأمر على الأطفال. اقرأوا القوانين لكي تعرفوا سر هذا الصدام المستمر بين الجمعيات والوزارة. وهو صدام قد لا يكون للطرفين دخل فيه طالما تعلق بالنصوص. العبرة في مكان آخر: تغيير القوانين والأهم تحرير مفاهيمها من هواجس الضبط والرقابة
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 904 - الجمعة 25 فبراير 2005م الموافق 16 محرم 1426هـ