العدد 903 - الخميس 24 فبراير 2005م الموافق 15 محرم 1426هـ

قصيدة الرثاء الحسيني ليست بكائية

من خلال الإطار الزمني كمسوغ منهجي فقط وفي هذه اللحظة الراهنة المهمة، فإن مفردة الأدب الحسيني حين تطلقها ستشمل كل المجالات الفنية التي تستخدم أداة فاعلة في التعبير الشعبي عن قضية الإمام الحسين "ع" وما تعبأت به من قيم إنسانية تتطلع إلى الفضيلة والعدل والخروج على الظلم والتغيير والإصلاح والثورة، وذلك في إطار إبداع سنوي يتصف بحال احتفالية من خلال الشعر وفنون الصوت، والخطابة والرسم والخطوط والمسرح والتجمهر الاحتفالي الاستعراضي.

إن الرابط بين كل هذه المكونات هو الحدث التاريخي وما ولده عند المسلمين من تفاعل خاص مبتدعا الكثير من التنويعات على المستوى الأدبي والتي تمثلت في شكل دائرة يكون مركزها الحدث وقيمه المضمونية، ويتمثل قطرها المتواصل ببعضه بعضا في المكونات السابقة المتمثلة في أدوات الإحياء من شعر وخطابة وفنون صوت إنشادية "الرداديات والشيلات" ومسرح وخطوط ورسوم، وسينما ومازالت الدائرة تتسع لأدوات أخرى قد تستدعيها محاولات التجديد والتطوير المستمرة.

الشعر الحسيني

أما الشعر فهو يمتد امتدادا عميقا في الظاهرة ويكاد يكون مؤسسا أوليا على المستوى التاريخي من خلال استدعاء ومراكمة القصائد التي قيلت في رثاء الإمام الحسين "ع" والتأليف على منوالها إذ يتحول الرثاء وهو الغرض الشعري القديم الذي يبكي على الفقيد ويستعرض صفاته ويفديه بالنفس والولد، إلى حال إحيائية كلما مرت الحادثة بالذاكرة يجيء الشعر ليحيي صورة المشهد، منطلقا من الحال الرثائية مع الأخذ في الاعتبار الحاجة الإنسانية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي.

إن القصيدة الرثائية عبارة عن بنية مضمونية ذات محورين، المحور الأول هو رثاء الشهيد والمحور الثاني قضية الصراع مع قاتليه تمثيلا لحال الولاء والبراءة ولذلك فقصيدة الرثاء الحسينية ليست قصيدة بكائية فقط.

وقد قدم الشعر في هذا المنحى عطاء زاخرا فتنوع بين العمودي والمتعدد الأوزان وشعر التفعيلة، سواء بحسب الفترات الزمنية التي يمر بها أو بحسب صانعه وتوجهاته أو بحسب طريقة الإحياء. ثم انتقل إلى شعر في صورة الأزجال والموشحات ذات القوافي والأوزان المتعددة وذلك لطبيعة تطور الإحياء.

وما يلفت الناظر كثرة الإصدارات في مجال دواوين الرثاء الحسيني ويكفي أن شعر الرثاء الحسيني في البحرين يجعل من الدراسة البيبلوغرافية تتخذ له مكانا خاصا لسعة حجمه من الإصدارات والدواوين كما فعل ذلك منصور سرحان حين أعد له مكانا خاصا في تصنيفه السنوي لإصدارات البحرين من الكتب والمؤلفات، حتى يكاد شعر الرثاء الحسيني يمثل حركة شعرية مستقلة لها ما يميزها من مظاهر خاصة تختزن رؤية وتجربة متفردة يمكن دراستها بشكل مستقل لنرى امتداداتها ورؤاها وأثر كل ذلك في الساحة الشعرية البحرينية والشعرية العربية.

الرسوم والخطوط

وكذلك من مكونات الأدب الحسيني الرسوم الفنية التي تتزين بها البيارق واللوحات والأقمشة المحمولة أو الجدارية إذ تجسد تلك الرسوم طريقا للتفاعل الفني البصري مع كربلاء وتتشكل في نوعين: الأول رسوم التجريد وهي عادة تتمثل في رموز مستجمعة من الحادثة ومن أدوات المعركة وشخوصها وأفكارهم وهي علامات وإشارات مستقطعة بدقة لتشتغل في الفكر كرموز دالة على كربلاء عند المتلقي الخاص حتى أصبحت قادرة على شحن معاني الترميز في شكل استعارات تدمج بين الماضي والحاضر من خلال الفكرة والرمز. ويكفيك أن تلقي نظرة على أي موكب من مواكب العزاء لتجدها ماثلة أمامك.

أما النوع الثاني فهي رسوم المشاهد وهي في العادة عبارة عن مواقف تمثل حال الثورة والمأساة وذلك من خلال إعادة رسم مشهد المعركة كاملا بحسب ما يصوره الذهن. وكأنك لست أمام مشهد جامد بقدر ما أنت أمام قصة ذات مشاهد عدة حتى أنك لتستطيع أن تجزئها وتتابعها زمنيا المشهد تلو الآخر، وهي رسوم ناتجة عن السرد المتصور لحوادث المعركة.

وقد تقدم في اللوحات مشاهد مستقطعة، فتقوم كل لوحة بتصوير كل شخصية على حدة وأبرز موقف لها في الذاكرة السردية، وذلك لاستدعاء المعاني التي شحن بها كل موقف من المواقف في كربلاء.

وهناك من الرسوم واللوحات ما يمثل بعض المقولات المشهورة لشخوص كربلاء، وذلك لما تتسم به هذه المقولات من محورية في المأساة أو الثورة والتضحية، والاستشهاد.

ومن جميل ما ابتكرته المخيلة الإبداعية في السنين الأخيرة في هذا المجال فكرة المرسم الحسيني الذي جاء ليستجمع تلك الجهود الفنية ويبرزها في تظاهرة خاصة تحتفي بهذا الإبداع وصانعيه ومتلقيه وتتطلع إلى أن تقدم كربلاء في صورة أكثر إشراقا وأكثر ألقا.

ومن مكونات الأدب الحسيني كذلك الخط العربي بجمالياته الخاصة إذ يبرز في البيارق والأعلام واللافتات واللوحات والأقمشة الجدارية والمحمولة والتي تتقدم الموكب وتتشح بمقولات الحسين وشهداء كربلاء وتقوم بوظائف عدة منها عنونة الفعاليات وإبرازها إعلاميا، والتدليل على كل منطقة ودورها واستعدادها للإحياء المتميز، إذ ترفع على الجدران مع بداية اليوم الأول من عشرة محرم أقمشة سوداء بمختلف أنواع الخطوط من خط النسخ إلى الخط الديواني إلى الرقعة وحتى الثلث بجمالياته وتداخل حروفه، يكتب بها مجموعة من أقوال الرسول وأهل بيته والمقولات التي تبين أهداف ثورة الإمام الحسين، بما يجعل من موسم العشرة بيئة خصبة في توظيف الخط العربي إذ تحتفي المناسبة بهذه الخطوط وتبرز جمالياتها وقدرتها على توصيل الرسالة المعبأة فيها والمكتوبة بشكل جميل وفي حروفية متناسقة متمكنة، وخصوصا حين أصبحت تتداخل مع فن الرسم وألوانه الجميلة الخلابة.

أنواع المسرح الحسيني

إن المسرح ليقف كمعلم أصيل بين هذه الفعاليات، إذ إن ما يقدم من تمثيل واقعة كربلاء يعد أبعد نقطة تاريخية لتأصيل المسرح العربي، ناهيك عن أن هذا المكون يعتبر من أهم المكونات قدرة على تقديم صورة مؤثرة وفاعلة في التغيير لما للصورة والتجسيد من قدرة على التغلغل في أعماق النفس البشرية، فالمشاهد حين يتلقى صورة القاتل يرفض أن يكون مثله وحين يستبطن صورة أهل الخير والإصلاح فإنه يطمح إلى أن يسلك سلوكهم من أجل التغيير، ومن خلال دراسة مسحية سابقة قمت بها لما يقدم من مسرحيات في شهر محرم في البحرين وجدت أن المسارح العاشورائية تنقسم إلى خمسة أنواع، هي: مسرح احتفالي وهو الذي يكون فيه الفرد مشاهدا وممثلا في الوقت نفسه ومثاله المسيرة الموكبية، ومسرح القصيدة الموكبية إذ اعتمدت بعض قصائد الموكب على الشكل الحواري ثم تطور هذا الشكل بتوقف الموكب في ساحة مفتوحة لتمثيل أحد مشاهد القصيدة ما يزيد من مستوى التفاعل، والمسرح الشعبي وهو ما يقدم في يوم عاشر وما بعده من مشاهد المعركة وحرق الخيام ويعتمد كثيرا على ذاكرة الأبيات الحسينية، وهناك المسرح التسجيلي التاريخي يقوم فيه الممثلون بتقديم مشاهد تاريخية مستمدة تتبع سيرة الشخصيات والحوادث ذات العلاقة بكربلاء المعركة بحسب الوثائق التاريخية، وهناك المسرح الإبداعي إذ يتخذ من الحادثة ومضامينها مجرد منطلق ليقول ما يريد متجردا من عنصري الزمان والمكان فينطلق في الماضي والحاضر والمستقبل ويحلق في قيم كربلاء ومعانيها من غير أن يلتزم بالصبغة التاريخية الموثقة أو الصورة الشعبية المتخيلة.

حبيب حيدر

العدد 903 - الخميس 24 فبراير 2005م الموافق 15 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً