العدد 902 - الأربعاء 23 فبراير 2005م الموافق 14 محرم 1426هـ

يوميات صحافي... سائق "تاكسي"

الوسط - محمد الرديني 

تحديث: 12 مايو 2017

عجيب

سألتني الراكبة باهتمام: - هل أنت عربي؟ أجبت باكتراث: - نعم قالت: سمعت أنكم تقتلون البنت التي يغتصبها الرجل بدعوى أن القتل يأتي غسلا للعار الذي لحق بالعائلة.

- هذا صحيح.

سألت بلهفة:

- ولكن لماذا؟

قلت:

- لأنها فرطت بأغلى شيء لديها، عذريتها.

قالت:

- ولماذا لا تقتلون الذي أقدم على سرقة هذا الذي تسمونه أغلى شيء لديها...؟

لماذا ينتحرون؟

جميع من يسكن هذه البلاد يعرف جملة من الحقائق البسيطة عنها، أولها أن السكان لا يتجاوزون 3,9 ملايين نسمة يعيشون في جزيرة كبيرة تكونت بفعل البراكين، اكتشفها بحار يدعى "كوك"، جاءها البريطانيون أولا ثم المهاجرون من بلدان غربية متعددة، إذ وجد "الماوريون" وهم سكان البلد الأصليون أنهم قلة. هذا البلد - أيها السادة - أخذ أروع ما في شريعتنا الإسلامية، طبقوا نظام بيت المال، إذ تتكفل الدولة بصرف راتب أسبوعي لكل عاطل أو عاطلة عن العمل مع راتب خاص لجميع الأولاد منذ بداية ولادتهم حتى التحاقهم بأول عمل لهم بعد التخرج من الجامعة، وهناك الصدق في التعامل - آه ما أجمل هذه الكلمة - إنهم يثقون في كل ما تقوله، ثم الاخلاص في العمل، إذ لا رئيس ولا مرؤس.

ولكن هذه البلد تعاني من مشكلة قاتلة: انها الدولة رقم واحد عالميا في نسبة الانتحار، وهذه النسبة تنحصر ما بين أعوام "24 - 45 سنة" وهي السن الرائعة في عمر الانسان. شغلني هذا الأمر كثيرا، سألت الكثير من الشباب، كانت الفرصة أمامي - بفعل مهنتي - أن أعرف الجواب من هؤلاء الذين أقلهم إلى بيوتهم في عطلة نهاية الأسبوع بعد أن يتجولوا بين البارات إلى ساعة متأخرة من الليل.

لم أعثر على الجواب...

ولكن لماذا؟

ها هي نيوزيلندا، بلد من أجمل بلدان العالم في خضرته وهدوئه، بلد يحتل فيه قطع غصن شجرة أو صدمها من قبل سائق مراهق الخبر التلفزيوني الأول في نشرة الأخبار اليومية... بلد فيه أروع هدية تقدمها في أعياد رأس السنة الميلادية هي كتاب جديد... بلد حباه الله بنعمة أنه بلد بلا جيران، وهي نعمة لا تقدر بثمن في هذه الأيام، فالجزيرة المعزولة - مثل نيوزيلندا - لا تعرف الحروب ولا الارهاب ولا حتى الاعتقالات.

ولكن شبابها ينتحرون!

هذه الجزيرة التي تغلق فيها معظم مراكز الشرطة في الخامسة مساء من كل يوم مثل أي متجر في سوق عمومي، ليتسمر شبابها بعد ذلك أمام التلفزيون، ويخلد كبارها إلى النوم، وتنعم فيها الخرفان "40 مليونا وهو أضعاف عدد السكان" بهدوء عجيب... هذه الجزيرة تضطجع على خاصرة الموت كل يوم... لأن شبابها ينتحرون.

لماذا، لا أحد يدري!

سألت الكثير منهم، شبابا من مختلف الأعمار ومختلف المهن، لا أحد يملك الاجابة المقنعة، فبعضهم يعتقد أن الحياة مملة ليس فيها ما يستحق العيش، والبعض الآخر يهز كتفيه غير مبال حتى بالسؤال، ولكن كلهم يعرفون أن نسبة الانتحار في نيوزيلندا هي الأعلى في العالم.

كانت تجتاحني رغبة في أن أصرخ بوجوههم... كنت أريد أن أقول لهم، وهذا ما فعلته ذات يوم، إذ صرخت بوجه شاب كان يتأفف لأن عليه أن يصحو في اليوم التالي مبكرا للذهاب إلى العمل:

هل رأيتم عسس الليل في البلدان التي يستحم ليلها بمياه البحر الأحمر أو البحر العربي أو حتى مياه النيل الذين يقعون "كما يقع الكلب" في الشوارع ويقتلون الناس على الهوية... هل سمعتم بأحد يقلب أهم ركن من أركان علم الفيزياء بقوله "إن المادة تفنى" مدعما قوله بوضع الأجساد البشرية في أحواض تحوي سائلا لا يذيبها فقط وإنما يلغيها من الوجود... هل سمعتم عن ذاك الذي يطعم كلابه ونموره قلوبا بشرية لبشر لم تعجبه أشكالهم أو أنهم تجرأوا ونظروا إليه... هل سمعتم عن شباب يذهبون إلى الحروب وهم لا يعرفون لماذا...؟ هل سمعتم عن عواميد الاسمنت التي تجعل من أجساد البشر قوالب لها؟ هل سمعتم عن الغرف التي تتحرك جدرانها باتجاه بعضها لتعجن البشر بعد أن تطبق عليهم؟

إذا لم تسمعوا بكل هذا وقصص أخرى يشيب لها شعر الوليد، فأرجوكم صادقا أن تسمعوها الآن وتتوقفوا تماما عن التفكير بالموت... فبلادكم أيها السادة ليس أجمل منها إلا بلادي، وحين يضوع الياسمين في صباحاتكم المشرقة فليس أعطر منه إلا خضر الياس في بلادي.

لديكم حدائق تفوح منها عطور الدنيا كلها... عطور ليس أروع منها إلا عطر القداح في بلادي. هل شممتم الجوري...؟ هل عندكم بيوت تسبح بالماء، هل لديكم عيون "كلي علي بك"، هل عندكم جبل حمرين، هل عندكم الفتاة التي إذا شربت عصير الزبيب يظهر لونه في شرايين عنقها... ربما عندكم أجمل من ذلك:

ولكنكم تنتحرون.

توقفوا عن الموت أيها السادة "فليس الواحد منكم عنده من الأسى جبل يمشي معه وينتقل". وليس الواحد منكم أيها السادة حين يخرج في الصباح لا يعرف في أية محطة من محطات الحافلات يموت.

إنه يموت غصبا عنه لأنه يحب الحياة حد الجنون... ومن أجلها يموت.

هل عرفتم الآن لماذا نموت نحن ولماذا أنتم تموتون؟

هذه اليوميات التي تنشر في حلقات في صحيفة "الوسط" ستصدر قريبا في كتاب يحمل الاسم نفسه، وهي يوميات كتبت في عامي 2003 - 2004 من مدينة اوكلاند في نيوزيلندة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً