شدتني موضوعات تطرحها "الوسط" بحماسة وحمية وطنية من دون غيرها من صحافتنا المحلية تتعلق بالبيئة، ويسجل في هذا المقام لـ "الوسط" وإلى الزميلة ريم خليفة والزميل جعفر الجمري وغيرهما رؤيتهم المتميزة وإصرارهم على مواصلة الحملة في تناول هذه الموضوعات وإعطائها حقها، وخصوصا في موضوع خليج توبلي الذي شاركت جمعية الوفاق الإسلامية قلقها عليه وضرورة حماية ما تبقى منه في بيان صدر في الآونة الأخيرة يشدد على ضرورة اعتماده "محمية طبيعية وطنية"، بوجود "قانون خاص ومحكم لحماية الخليج تسهل مراقبة تنفيذه ومحاسبة منتهكي أحكامه، ومن ثم التحرك القانوني الجاد للتعامل مع مخالفات قوانين وقرارات منع الدفان والتعمير بهذا الخليج، إلى محاسبة المخالفين والمتجاوزين، وتسيير مفتشي دورية منتظمة لها صفة الضبط القضائي لمراقبة السواحل على مدار الساعة".
في الحقيقة، ان موضوعات البيئة والمحميات الطبيعية المفترضة، والشطآن والبحار، وكذلك اللون الأخضر تأتي هبة من السماء والطبيعة، لكن "عجزا حكوميا واضحا" وجوقة من المنتفعين ليس لها شأن في الهم العام ولا مصلحة لها في تنفس صحي للمواطنين، من الدافنين الرادمين، والمسئولون الرسميون الذين يكتفون بإصدار القوانين من غير إيجاد آلية لتنفيذها هم وراء ما يجري من تدمير متعمد للبيئة وأصابع الاتهام ينبغي أن توجه لهم وحدهم بكل شجاعة حتى لو تطلب الأمر "ثورة برتقالية"، وإلا ماذا يعني اعتبار خليج توبلي منذ العام 1995 بشكل لا يدع مجالا للتلاعب بهذا المفهوم "محمية طبيعية"، ومنذ ذلك التاريخ وبعد مرور عشر سنوات تصل الأمور إلى هذه المواصيل وكأن أذني الحكومة "واحدة من طين وأخرى من عجين" والردم "عينك عينك يا شاهر" على رغم المتابعات الصحافية واحتجاجات الأهالي، بينما القوانين في درج الروتين... فهل لهذه القوانين صدقية بقيت عند المواطنين؟!
الأسئلة بشأن التدمير البيئي المتعمد كثيرة، ولا أحد يعرف الإجابة، ليس في خليج توبلي فحسب، بل طالت مجمل السواحل وكل المناطق من الماء إلى الماء ومن الأراضي البكر إلى الخضرة. ربما لأننا في البحرين لا نملك "أحزابا خضراء" مكافحة، وليس لدينا تقاليد بيئية شأننا شأن جل البلدان العربية بسماتها المختلفة، ويخشى بعد ظهور جمعيات يشكر للقائمين عليها، لكنها "خجولة" لحماية البيئة وهي "خضراء وشبه خضران" بحكم فعاليتها وصلاحياتها والمساحة المتاحة لتحركها أن تتحقق نبوءة الشاعر الألماني بريخت عندما قال: "إن الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة، لأنه يعني الصمت عن جرائم أكثر هولا!" مع علمنا الأكيد أن الجرائم المرتكبة ضد الشجر والحجر والبحر هي مرتكبة ضد حق البشر في استنشاق هواء نقي وشرب ماء نظيف ومشاهدة أفق يبث السكينة في أرواحهم، لكنه على استعداد لقتل متعتهم أينما ولوا ورحلوا إن كان غرضهم تفريغ أو غسل همومهم وأحزانهم!
لنستقي الدرس هذه المرة من لبنان لمعرفة القيمة الحضارية عندما تنشأ أحزاب خضراء تكون قوتها مثل قوة الدولة العصرية التي تتوافر فيها أحزاب سياسية؛ ففي مقال رائع للكاتب الصحافي الإماراتي محمد عبيد غباش نشر في صحيفة "الشرق الأوسط" حديثا قال بهذا الشأن: "ربما كان لبنان هو السباق في هذا الأمر، وهو الشيء الذي ربما حفزه له حال الخراب التي ألحقتها الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات بالبيئة. ولمدة طويلة اختفت العصافير من لبنان ولم تتبق إلا أعقاب خراطيش الصيادين التي تكثر في كل مكان. والأدهى من ذلك أن بعض الميليشيات قامت لأجل المال بتصريف نفايات خطرة مستوردة من الخارج. لكن نتيجة لجهود اللبنانيين الخضر وضغوطهم الإعلامية اتخذت الحكومة اللبنانية جملة من الخطوات كان من جملتها منع صيد الطيور وتأسيس مصانع للتخلص من النفايات، ولهذا عاد صوت العصافير والطيور سمع في الجبال بعد أن كان ربيع لبنان صامتا لسنوات طويلة".
وأضاف غباش، "في دبي أعلن عن مشروع لإنشاء واجهة بحرية كبيرة، وترافق الإعلان مع وعد بإنشاء صخور مرجانية وعلى امتداد الواجهة وبعرض 5 كيلومترات. وفي قطر والبحرين والكويت هناك مشروعات سياحية كبيرة لتطوير جزر أو شطآن، لكن من المؤكد أنه من دون تصد سريع لعملية التلوث في الخليج فإن البحر سيعجز عن توفير العناصر الأساسية للسائح خلال العقد المقبل، كالسباحة على الشطآن أو هواية الغطس العميق".
تنقصنا بالتأكيد الثقافة البيئية، فدعونا نتساءل مع المتسائلين: ماذا لو نشأت "أحزاب خضراء" في الخمسينات مثلا، وتمت شرعنتها على اعتبار أنها غير سياسية، إذ السياسة كانت من المحرمات آنذاك مثل الثالوث المحرم: "الدين والجنس والصراع الطبقي"، ومارست هذه الأحزاب البيئية دورها وتطورها الطبيعي في التوعية والضغط على الحكومة والمتنفذين الذين عبثوا بالبر والبحر والمياه العذبة والشجر، فهل صورة البحرين ستكون كما هي عليه الآن؟! بالتأكيد لا، لأنه في أقل تقدير سيكون الإحساس البيئي والوعي البيئي سيأخذان مكانتهما الطبيعية في أعمق أعماق الناس، ولطالب الناس من بعد ذلك ليس بوقف ردم البحار وقلع الأشجار التي كادت أن تختفي فحسب؛ بل بإلزامية استخدام الوقود الخالي من الرصاص، إذ ثبت تسبب العادي منه في الإضرار بأدمغة الأطفال، وبدل المطالبة، صرنا نمارس هذه الحقوق التي في البلدان الأخرى المتقدمة من أولويات المحافظة على البيئة.
ربما الوقت متأخر، أن تطرح "هذه الأمنيات" على الورق الآن، لكن أن "تتأخر أفضل من ألا تأتي أبدا" كما يقولون، فماذا لو تحولت جمعيات البيئة عندنا في البحرين إلى أحزاب، أو تتوحد في "حزب أخضر واحد"، وظني أن بها من الكوادر المتخصصة في هذا المجال ما يكفي لحماية ما تبقى من اخضرار وسواحل، ووقف العبث بمحاسبة المسئولين عن تدمير بيئتنا التي كانت جميلة وتم تخريبها بفعل فاعل، ولن نصل إلى ما نرمي إليه إلا بتفعيل القوانين بدل ركنها في "أدراج السائد" غير المكترث؟!
كاتب بحريني
العدد 901 - الثلثاء 22 فبراير 2005م الموافق 13 محرم 1426هـ