هل بدأت واشنطن بالتراجع عن برنامجها الإصلاحي في المنطقة العربية - الإسلامية "الشرق الأوسط الكبير" أم انها مصرة على المناورة السياسية والاحتيال على الشعوب العربية واستغلال حاجاتهم للإصلاح لتمرير مشروعها الحقيقي الذي يقضي بتقويض الدول وتحطيم البنى التحتية خدمة لأمن "إسرائيل" والنفط؟ السؤال نفسه يتضمن الجواب وفيه الكثير من الإشارات التي تشي بوجود نوع من التراجع عن "البرنامج الإصلاحي" من دون ان يعني الأمر أن واشنطن تخلت عن خططها الهجومية على بعض دول المنطقة العربية - الإسلامية. فهناك الكثير من الكلام الأميركي عن صعوبات الإصلاح وكذلك عن تفهم واشنطن لظروف المنطقة وتعقيداتها. إلا أن الكلام التراجعي عن برنامج الإصلاح لا يرفق بكلام آخر عن عدم الاستعداد لخوض مواجهات عسكرية - دموية ضد المنطقة. فالكلام خفف من كثرة "الاكاذيب" عن الديمقراطية والشفافية وغيرهما وأكثر من اطلاق تصريحات نارية بقصد إرهاب الدول وتخويف الشعوب.
هذا التعارض بين تقليل الكلام عن الديمقراطية وزيادته عن الحروب "أو الحلول العسكرية" يكشف حقيقة المشروع الأميركي الذي اعتمد على سياسة زرع الأوهام وتكبير رؤوس المعارضات العربية في وقت يخطط لاقتلاع الدول القوية في المنطقة حتى يعزز مواقع "إسرائيل".
الكلام عن الإصلاح والديمقراطية والشفافية وما يشبهها من مفردات لم يعد الهم الأساسي للسياسة الأميركية لأنه بكل بساطة ليس من اهتمامات واشنطن في المنطقة أصلا. فالكلام قيل أصلا للضغط على الأنظمة حتى تخاف وتقوم بتقديم التنازلات المطلوبة في إطار مشروع لا صلة له بتلك المفردات. والكلام قيل أيضا لإحداث ارباك داخلي للأنظمة التي تتردد في معظمها على اتباع سياسة الانفتاح الداخلي والتصالح مع شعوبها.
الآن كما يبدو، في ضوء الخطوات الأولى في ولاية بوش الثانية، بدأت واشنطن تعيد ترتيب أولوياتها بعد أن نجحت في خلط أوراق المنطقة في ولايته الأولى. فالولايات المتحدة لم تعد متحمسة "ولم تكن مستعدة" لبرامج الإصلاح والتحديث والتطوير وباتت ترى فيها مجرد "كليشهات" لتزيين خطابات الرئيس الأميركي وتبرير سلوكه.
الحماس الآن لم يعد لبرامج الإصلاح بل للمشروع الأصلي الذي يتعلق بما تسميه واشنطن بمخاوف تل أبيب من البرنامج النووي الإيراني. فالإصلاح غاب جزئيا وحل مكانه المشروع الحقيقي الذي يتحدث عن الإرهاب وأنظمة الاستبداد وبرامج التسلح الإيرانية والسورية. وهذا بالضبط مربط خيل "راعي البقر" الأميركي. فالرئيس بوش في مؤتمراته الصحافية وتصريحاته وبياناته التي اطلقها خلال جولته الأوروبية لم يتوقف كثيرا أمام برامج الإصلاح "وهي غير موجودة أصلا" بقدر ما أسهب في الكلام عن المخاطر الأمنية التي تواجه "إسرائيل" بدءا من إيران وصولا إلى لبنان. فبوش كما يتظاهر أمام عواصم القرار في أوروبا خائف على "إسرائيل". والأخيرة وبحسب وصف بوش لا تستطيع النوم من كثرة قلقها من برنامج إيران النووي. وهو "اي بوش" لو كان مكانها لفعل ما تفعله وتصرف وفق السلوكيات التي ترتكبها حاليا.
بوش إذا متفهم لمخاوف "إسرائيل" المختلقة وغير متفهم لمخاوف الدول العربية وقلقها من امتلاك حكومة ارييل شارون لترسانة نووية وصواريخ تطال معظم شرق وجنوب قارة أوروبا. فالدول العربية والمسلمة برأيه تستطيع الاستسلام للنوم الطويل ولا داعي للانتباه واليقظة لأن قنابل "إسرائيل" النووية وصواريخها "ممسوكة" أميركيا على رغم كلام ديك تشيني من احتمال تفردها بالقرار وقيامها من دون تنسيق مع واشنطن بالهجوم على مواقع إيران النووية.
وفي هذه الحال من تصدق الدول العربية والمسلمة، تطمينات بوش ام تحذيرات "تصريحات" تشيني. فالأول يقول إن "إسرائيل" ممسوكة والثاني يقول إن أميركا لا تملك تلك القدرات على "مسك" تل أبيب في حال قررت وانفردت من دون تنسيق.
هذا اللعب في الالفاظ بين بوش وتشيني يقصد منه التلاعب بأعصاب المنطقة العربية - الإسلامية وتوتير أمنها الداخلي ووضعها تحت رحمة انفلات الصواريخ النووية الإسرائيلية وإعلان براءة واشنطن من كل التداعيات المحتملة التي يمكن أن تصدر عن جنرالات تل أبيب.
المشكلة إذا تبدأ هنا وتنتهي هنا، وهي في أصلها وفصلها لم تكن متعلقة أبدا بحرص بوش على تطوير المنطقة وتحديثها. فالإدارة تعلم ان المهمة صعبة ولا مصلحة أميركية في تقدم المنطقة على مسار التنمية. وهذا هو جوهر شفافية بوش.
تراجع بوش عن برامج الإصلاح ليس غريبا وهو أيضا ليس بالأمر الجديد. فالمسألة لم تكن أصلا هنا والهدف الأصلي من حروب واشنطن ليس دفع المنطقة نحو الشفافية وانما منعها من احتمال التطور
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 901 - الثلثاء 22 فبراير 2005م الموافق 13 محرم 1426هـ