تخلو قائمة أهم 55 دولة تتصدر البيئة التحتية الاتصالية والإعلامية من أية دولة عربية أو إفريقية، ويعبر رئيس جنوب افريقيا ثابو مبيكي عن هذا بقوله: "إن نصف البشرية لم يستخدموا الهاتف مرة واحدة في حياتهم، مع أن ولاية مانهاتن الأميركية تضم خطوطا للهاتف أكثر مما يوجد في كل أقطار إفريقيا جنوب الصحراء". تلك كانت مقدمة أولى.
المقدمة الثانية هي نسبة الالتحاق للطلبة في الدول العربية في المواد والتخصصات العلمية، إذ تبلغ في غالبية الدول العربية أقل من 5 في المئة في حين أن النسبة في كوريا الجنوبية 20 في المئة، ونلاحظ أن الطلاب العرب في الغالب يهربون من الالتحاق بالأقسام العلمية ويتجهون إلى الأقسام الأدبية.
هل أحتاج الى مقدمة ثالثة حتى أستطيع فعلا أن أتحدث عن وجود مشكلة تعليمية في الوطن العربي، لكن هذه النتيجة ليست بالجديدة، فالجميع يقر بمشكلة التعليم، إذا، لعلي أفترض رؤية اخرى، هي أننا "جميعا" ببساطة لا نريد للتعليم أن يتطور، وأننا جميعا متآمرون على التعليم؟
تآمر السلطة...
السلطة الرئيسية "الدولة" تسعى جاهدة إلى أن يكون مستوى المجتمع في حدود معينة، بخصائص وصفات محددة، ونستطيع أن نرى في بعض النماذج العربية كيف يمنع الطالب من دراسة العلوم السياسية او الإعلام من دون ترشيح خاص من الحزب الحاكم، بمعنى أن السلطة تسعى إلى تعليم فئة محددة مقصودة، تعليما هي من يحدد نوعيته ومستوياته.
الحكومات في الدول العربية تتدخل في النظام التربوي من المراحل الدنيا وصولا إلى الجامعة، والجامعة التي هي في الأساس مصنع الأفكار والاختلاف، تجدها عبارة عن تكتل كلاسيكي لا يسمن ولا يغني عن جوع. الطالب الجامعي في الجامعات الخليجية كان محرما عليه السماع أو القراءة عن ماركس مثلا، بدعوى أنه ملحد كافر. وحين انتهت الشيوعية وانتهى عصرها واتضح للعالم فشل تجربتها وسلسلة العذابات التي اقترفتها بحق الإنسانية، أصبح مسموحا في الجامعات الخليجية القراءة له. ولعل اللطيف والمبكي في الأمر، أن الكثير من الجمعيات الشبابية في البحرين مثلا تروج لماركس وكأنه للتو بدأ رحلته، أو بالكاد ترجمت كتبه اليوم!
تآمر المؤسسات...
مؤسسات المجتمع أيضا تتآمر ضد التعليم، فالتعليم بالنسبة إلى العلمانيين هو "إزاحة كل ما هو ديني من التعليم" وكأن الدين فقط هو بعبع التعليم وحقيقة رجعيته. وكأنما خيارات القومية العربية البائدة، والشيوعية المقبورة، والليبرالية المعلبة لم ترم بنا في سنوات طويلة من الدمار والقتل والفشل.
الإسلاميون منجزهم وحلمهم في التعليم هو تدريس المذاهب الخمسة. وكأن إلمام الشافعي بما يقول المذهب الحنفي أس المشكلة ومفتاحها الضائع، وكأن الشيعي سينسى عقدة المؤامرة التاريخية عليه حين يدرس السنة قاطبة مذهبه وعقائده. ولعمري هي ليست إلا سلسلة من المؤامرات التي نحوكها، ولعلها المؤامرة الوحيدة تاريخيا التي اتفق عليها العرب ونجحوا فيها بامتياز!
بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول انقض الجميع على التعليم، فلقد كان لدعوات إصلاح التعليم التي أتت من الخارج أثرها المباشر. الإسلاميون والقوميون والليبراليون والتقدميون، كل رمى ما يراه مهما في أجندته الخاصة، أو يخدم بقاء سلطته المجتمعية فاعلة متسيدة متغولة، وهكذا أصلح المتآمرون التعليم وسيبدأ العرب جميعا عما قريب في حصد النتائج!
ثقافة السؤال...
المؤسسات التعليمية العربية عقدتها في بيتها، في خبراء المناهج الذين يضعون مناهج الطلاب بما تفرضه السياسة عليهم، التعليم في الدول العربية أسير سياسة، فإن كان الخيار السياسي بتر الدين، بتروه، وإن كان الخيار ترويج الدين، روجوه، فتجد الفيزياء الإسلامية والرياضيات الإسلامية، وطبعا تجد عباس بن فرناس "المنتحر جهلا" أول من حاول الطيران!
سياسات التلقين، وتقديس كل ما هو مكتوب في المقررات الدراسية إشكالية أدهى، نحن في انظمتنا التعليمية العربية جعلنا الكتاب المدرسي "كتابا مقدسا". والذي يلاحظ هذه الهالة من التقديس يعتقد أن الكتاب المدرسي هو عصارة ونتائج بحاثة عالميين؟! وأنه أحدث ما توصلت له مراكز البحوث الدولية! طلاب الجامعات يدرسون فصولا معدودة من كتب الستينات البالية.
نحن "الأسرة العربية" شركاء في المؤامرة، نسير على هدى وتعليمات المؤسسات التعليمية من دون أن نناقشها أو ننتقدها، علينا أن نجعل من أبنائنا "ببغاوات" جيدة النطق لما يلقنها المدرسون ونحن، هموم خطاباتنا السياسية والاجتماعية العربية تصارع مجنون على السلطة، وأبناؤنا ندربهم ليتصارعوا على السلطة من بعدنا، ومؤسساتنا التعليمية العربية شريكة في السلطة والصراع، أما التعليم والمعرفة فهما آخر أولوياتنا. الغريب أن اليابانيين للتو لم تعجبهم نتائج مجتمعهم العلمية والتقنية، وشكلوا خطة طوارئ وطنية لإصلاح التعليم، أما نحن، فنتائجنا العلمية وإنجازاتنا التقنية تدعو إلى الطمأنينة!
نريد للمؤسسة التعليمية أن تكف عن عباراتها التقليدية "على الطالب أن يفهم كذا..."، "على الطالب أن يلم بكذا..."، "على الطالب أن يعرف كذا..." هذه الصياغات البليدة الآمرة عفا عليها الزمن، أعطوا الطلاب الحرية في التفكير، فليكتبوا ما يريدون، فالمهم أن يكتبوا. فليفكروا كما يريدون، فالمهم أن يفكروا. فليسألوا ما يريدون، فالمهم أن يسألوا. فلينتقدوا ما يريدون، فالمهم أن ينتقدوا. كفى تلقينا، ووصايات تربوية صيرت من طلابنا خريجي جامعات لا يستطيعون أن يكتبوا سطرا واحدا، من دون أن يقرأوا سؤالا حفظوا إجابته من كتاب حفظوه.
الطالب العربي اليوم، أقل الطلاب "عالميا" ذهابا إلى المكتبات وقراءة للمراجع العلمية، وجامعاتنا مراجعها كتب صفراء من الستينات والسبعينات الماضية، والبحوث التي يقدمونها ليست علمية ولا علاقة لها بالعلمية، بحوث سرقة "نسخ ولصق" من المواقع الإنترنتية، أو بحوث "مكتبات" تبيعها للطلاب بأبخس الأسعار، ثمة مؤامرة على التعليم تشترك فيها حتى المكتبات الخاصة والاستعمال الساذج للإنترنت.
لقطات من المؤامرة...
يتحدث البعض عن أن مديرا ما، في مؤسسة ما، يرفض ابتعاث الموظفين النشطين لاستكمال دراساتهم العليا، ولطالما يفهم الموظفون هذه اللقطة المجتمعية بأنها خوف من جانب المدير من أن يرجع هذا الموظف، فيحل محل مديره، فتكون "وأعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني"، لكن اللطيف في الأمر هو سؤال آخر: هل هذا المدير الخائف تحديدا نال منصبه الإداري بالجدارة والمعرفة؟
لقطة أخرى، دكتور جامعي ذو مؤهلات كبرى، يطلب وظيفة في وطنه، بعد سلسلة عذابات كبرى في دراسته بالخارج على نفقته الخاصة، لا يجد وظيفة للعمل، وكأنه أقدم على جريمة كبرى بحبه للمعرفة، آخر في مؤسسة أكاديمية تشيد بنتاجاته الدنيا عرضا وطولا، ويحرم من تدريس طلبة الجامعة، هكذا وبلا سبب.
لا أريد أن أسس هذه اللقطات، أو أن أوظفها توظيفا مركزيا، لكن هي فقط التفاتات جميلة على رغم صغرها الموضوعي نحو مؤامرة مجتمعية كبرى، فالتعليم ضحية، ونحن جلادوها الباكون من ورائها.
الطريق إلى تونس...
إن استضافة العاصمة التونسية القمة المعلوماتية الثانية 2005 هي مناسبة متجددة لفتح ملف التعليم ومجتمع المعرفة العولمي. هي مناسبة لمطالعة مشكلة التعليم الحقيقية والراهنة. على الأقل، نريد أن نعرف ما لنا وما علينا في هذه التظاهرة العالمية الكونية التي تفترض تحكما معلوماتيا بالعالم، ولا ندري هل سنكون فيه شركاء في الحكم أم محكومين كما تعودنا؟
التعليم بما هو سؤال وتقنية ومعلومات، لا كما تصوره المؤسسة التعليمية العربية بأنه نتائج جاهزة وتلقين، هكذا ستكون آفاق مؤتمر تونس المرتقب، وفي هذه الزوايا ينتظر جميع المهتمين بالمجتمع المعلوماتي والتعليم والمعرفة، في قمة تونس سيكون الحسم الأخير لمقررات قمة مدريد الأخيرة، والتي أكدت وجود هوة رقمية ومعرفية خطيرة بين دول الجنوب والشمال. في تونس ستكون هناك الكثير من الحوارات والنقاشات التي نحن فعلا في حاجة ماسة إلى الدخول في فضاءاتها. إنها فرصة مهمة لأن نعيد كدول عربية استراتيجياتنا التربوية والتعليمية. إما التعليم كخيار وطني أول، أو البقاء في معارك السياسة والتنازع على السلطة.
يمكن القول إن المنظومة العربية في إدخال التقنية إلى أساس المجتمع في المدارس والجامعات والمكتبات، قد فشلت حتى الآن، إذ لا يستخدم الانترنت سوى عشر السكان العرب، وغالبيتهم من الشرائح المتوسطة والمرتفعة اجتماعيا، ولذلك يبقى هناك الكثير مما ينبغي عمله لتبني تقنية المعلومات، إلى جانب أن توصيل المدارس العربية بشبكة الانترنت جاء أقرب إلى الديكور منه إلى التوظيف الحقيقي، وهو أن تكون تقنية المعلومات وسيطا حقيقيا في التدريس.
الرائدون العرب في هذه الرؤية التربوية الحديثة قلة، فهناك، تونس "الداعي وصاحب فكرة القمة الكونية للمعلوماتية"، والتي حققت تكاملا كمبيوتريا ومعلوماتيا في جميع أجهزتها التعليمية. والبحرين خطت خطوات جيدة أخيرا، إلا أن صورة "مدارس المستقبل" في البحرين لا تفي بالغرض حاليا، فهي بحاجة إلى مراحل أخرى أكثر أهمية وأعلى كلفة، ولا أعتقد أن مخصصات وزارة التربية في البحرين تبشر بأن المملكة تسير في الطريق الصحيح
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 900 - الإثنين 21 فبراير 2005م الموافق 12 محرم 1426هـ