ما الذي يجمع كمال جنبلاط والإمام موسى الصدر ورفيق الحريري؟ بكلام آخر ما الذي يجمع رجل الفكر ورجل الدين ورجل الأعمال؟ انه الحلم الكبير. فهؤلاء الرجال الكبار حالمون ويذهبون بعيدا في تفكيرهم السياسي ويتجاوزون في مشروعاتهم حدود الطائفة والمذهب ولبنان. وهذا النوع من الحالمين يثير دائما الالتباس لدى الجمهور المراقب لأنه يخالف العادة. ومن يخالف العادات يطرح دائما أسئلة كثيرة من نوع: من هو؟ ماذا يريد؟ لماذا هو وليس غيره؟ من معه ومن ضده؟
حين يكون الحلم أكبر من الواقع تطرح الأسئلة من جهات مختلفة ومن مواقع متباينة تتداخل فيها الأمور الشخصية من حسد وكيدية إلى الأمور العامة التي تتصل بالتوازنات وتقاسم المصالح.
الرجال الكبار دائما يثيرون الأسئلة وأحيانا التساؤلات التي تصل إلى حد التشكيك من نوع: من يقف وراء هذا المشروع الكبير؟ ولمصلحة من ينفذ؟ ومن المستفيد منه ومن المتضرر؟
أسئلة حساسة يثيرها دائما الرجال الكبار. وهي أسئلة في معظمها تنطلق من حساسية شخصية مفرطة في رؤيتها. فالصغير ينفضح أمام الكبير وينكشف. فالسياسي الصغير الذي يلعب بالعصبيات المذهبية والطائفية والمحلية ويتغذى منها يرى أن مشروعه لا مستقبل له أمام الكبير الذي يطرح رؤيته متجاوزا حدود عصبيته ومذهبه وطائفته. والمفكر الصغير الذي يتلهى بالقشور وصغائر الأمور ينفضح أمام فكر يتجاوز حدود المرحلة ويقرأ المستقبل بعيون التاريخ والتطور. والأمر نفسه ينطبق على رجل الأعمال الصغير الذي يفكر على مستوى ضيق ويرى أن الاقتصاد مجرد أرباح يومية وليس استثمارا في الإنسان والمستقبل.
الكبار دائما "وهم قلة" يزعجون الصغار "وهم كثرة" ولذلك كان مصير الكبار في لبنان الاغتيال أو الإخفاء أو القتل. فهؤلاء في منظار الصغار يغيرون قواعد اللعبة المتعارف عليها. والصغار دائما يجدون في الكبار عقبة أمام مشروعاتهم الصغيرة التي تطمح إلى الكرسي وبعض الرشوة وترتيب مصالحهم الضيقة في إطار لا يتجاوز منطقتهم أو طائفتهم أو مذهبهم.
الكبار دائما هم مثار جدل وحوار ونقاش وأسئلة لا تتوقف. فهم يكسرون العادة وحين تصل الأحلام إلى هذه الحدود يبدأ الصغار بالدفاع عن مصالحهم الضيقة بزرع الشكوك وتعطيل المشروعات ووضع العوازل بهدف تفخيخ الأحلام وبعثرتها وتأخيرها إلى أقصى حد ممكن.
مثل هؤلاء الكبار يدفعون دائما ثمن أحلامهم ورؤيتهم التي تتجاوز وقتهم وتتعدى المكان الذي جاؤوا منه. فالصغار لا يفهمون هذا النوع من الكبار. كذلك من الصعب أن يتفهم العقل الأمني الأبعاد المستقبلية لتفكير هذا النوع من الرجال. فالعقل الأمني صغير الحجم وقليل التفكير، وأحيانا لا يفكر إطلاقا خارج أطر الحلقات الضيقة التي تتخذ قرارات حساسة لأنها لا تدرك الفارق بين الحلم والواقع.
العقل الأمني يكره الأحلام ويفكر دائما بالمؤامرات. ولأن قرارات العقل الأمني تتخذها حلقات معزولة، حرصا على عدم تسرب المعلومات، فهي عادة لا تقرأ ولا تفكر ولا تتشاور ولا تكترث للتداعيات. فوظيفة العقل الأمني قتل الأحلام بقتل الكبار حتى لا تتحول إلى واقع. فهذا العقل صغير ويفضل التعامل مع الصغار. الصغار لا يحلمون ولا يفكرون وإذا فكروا فإن طبيعة عقلهم لا تتجاوز المنطقة التي يتحرك في مجالها.
رجال لبنان الكبار رحلوا كلهم أو أجبروا على الرحيل أو غيبوا عنوة عن الصورة. كمال جنبلاط كان في تفكيره أكبر من منطقته وطائفته ومذهبه وتجاوز تفكيره حدود لبنان واتصلت أفكاره بزعماء العالم وامتدت علاقاته من الصين والهند وموسكو إلى باريس والقاهرة والجزائر، وكان يكتب الفلسفة ويقول الشعر بالفرنسية. الإمام موسى الصدر تجاوز مشروعه حدود طائفته ومذهبه ومنطقته، وكان يخاطب الجميع بلغة الإنسان الذي كرمه الله في كتابه وكان يرى المستقبل بعيون تجارب الماضي ومن حاضر لبنان استشرف مشروع دولة تتحدى الانقسامات الطائفية والتقسيمات المذهبية. مشروع الصدر تأسس على فكرة توحيد لبنان وتجاوز وقته وفضح الصغار الذين تضرروا من اتساع أحلامه. ورفيق الحريري الذي انضم أخيرا إلى قافلة الشهداء هو من هذا الصنف من الرجال الكبار. رؤية الحريري حالمة وهي أكبر من حدود طائفة أو مذهب أو بلد صغير. فذهب قبل أن يتحول حلمه إلى حقيقة.
ما يجمع جنبلاط والصدر والحريري هو الأحلام الكبيرة التي تتجاوز حدود الوطن الصغير. وحين تكون الرؤية حالمة تتصادم مع الواقع وتثير الأسئلة والالتباس عند الصغار لأنها تستقطب القوى وتعيد اصطفافها في تراتب يخالف العادة. وهذا النوع من الرجال الكبار يستفز أصحاب العقول الأمنية التي تكره الأحلام وتميل دائما إلى الدفاع عن مصالحها بطرد الحالمين من العالم ونشر الكوابيس فوق رؤوس الناس
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ