عندما يحل موسم عاشوراء تجري معه احتفالات عدة. ففي مكة المكرمة، مثلا، اعتاد الناس من قديم الزمان أن تأتي احتفالاتهم في اشكال عدة، أخذا في الاعتبار أن شهر محرم "المحرم" في لهجة أهل مكة كان يدعى بشهر "عاشور". بدءا من أول يوم "رأس السنة"، تقوم الأمهات بتحضير "القهوة الحلوة"، وفي رواية "القهوة البيضاء"، أو ما يشبه "السحلب" المصري اللذيذ، المكون من الحليب المحلى الممزوج بالمكسرات المهروشة. والقهوة البيضاء المكاوية هذه يتم تناولها عادة في المساء.
ثم هناك "العاشورية"، وهي طبخة حلوة تشبه "الشوربة" في سيولتها، إلا أن مكوناتها تعتمد على عناصر حلوة مثل السكر ونحوه، إضافة إلى كمية من القمح المنقع المطبوخ، ثم مختلف المكسرات، مع كمية من البليلة "ما يسمى في الخليج بـ"النخج"... بنطقهم الظريف "النخي""، مع بعض الزبيب ونحوه. وفي مكة المكرمة تبلغ ذروة عاشوراء بصيام يوم العاشر من المحرم، "عشرة عاشور"، ولو أني لاحظت في السنين القريبة صوم بعض الناس أيضا يوم التاسع "وأخذوا يشيرون إليه بـ "تاسوعا""، بل إن بعض البعض أخذ يصوم أيضا اليوم الحادي عشر، واستخدموا له لفظة "حادوشا"؛ واعتقادهم هو -إضافة إلى التقليد التراثي النبوي - أن صيامهم العاشر يسبب لهم الغفران عن بقية مآخذ وخطايا السنة؛ ولذلك و"لزيادة الخير خيرين"، يسعون إلى رفع رصيدهم من الغفران أو احتماله، بالصوم يوما أو يومين إضافيين، إضافة إلى يوم عاشوراء ذاته.
أما عند الجعافرة "على وزن الحنابلة"، فتبدأ احتفالاتهم - في البحرين مثلا - في الغالب مع بدء المحرم وتتدرج في حموتها بعد بدء المحرم ببضعة أيام، وهي فترة حزن وأسى "وموجزها: "هل المحرم فاخلع حلة الطرب"". ولذلك يتسارع عرسان وعرائس الشيعة في دول الخليج إلى إقامة حفلات الزفاف قبل حلول شهر المحرم، فتتكاثر الحفلات في فترة ما بين العيدين، ثم إلى نهاية النصف الأخير من شهر ذي الحجة، بما يشمل حفلات "الزفاف الجماعي".
ومع بدء أيام المحرم، تسير مسيرات "العزاء" ليلا تخليدا لذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي في موقعة "الطف" "على وزن "الصف"، "الكف"" في كربلاء في جنوب العراق؛ وتبلغ الاحتفالات الليلية ذروتها ليلة العاشر؛ ثم تقوم مسيرة - تأتي عادة تختيمية - في ضحى العاشر. هذا تعليق سريع على "تحاريم" المحرم /عاشوراء عند إخواننا الشيعة.
وفي مناسبات أخرى، كما في منتصف شعبان من كل عام، يحتفل سكان "ساحل الذهب الأسود" على ضفاف الخليج بمناسبة يسير فيها الصغار مرددين الأهازيج، ويجوبون أزقة حاراتهم. وفي مملكة البحرين السعيدة، تأتي هذه المناسبة مرتين سنويا: مرة في منتصف الشهر الثامن من التقويم الهجري "شعبان"، في ليلة تدعى في القرى بـ "الناصفة" "وتصاحب مولد "الإمام الحجة"، ليلة 15 منه"، ثم تأتي مرة ثانية، في منتصف الشهر التالي، رمضان.
ومن الناس من يشير إلى الثانية وكأنها مناسبة يحييها أتباع مذهب "السنة" كمنافسة، "بينما هي تصادف مولد الإمام الحسن"؛ وملاحظتي الشخصية خلال أكثر من 20 عاما هنا هي أن المناسبتين مشتركتان متمازجتان بين شعب البحرين عموما، سنتهم وشيعتهم، وهذا عمل جميل صالح، نشكره للأطفال وأهاليهم أن هيأوا وتهيأوا لهما، وزادوا بهما عنصرا إخائيا ونشاطا إجتماعيا يتماسكان حوله!
أرجو أن نسعى جميعا إلى رأب الصدوعات بين السنة والشيعة التي بدأت على الأقل منذ سنة 662م! والآن، ونحن في العام 2004م... لا تزال الاسطوانة المشروخة تلف وتدور! والقلب يدمى والنفوس تمور! ولا أرى في دورانها إلا طاحونة بلا طحين، بل أراها طاحونة تنذر بطحن الناس أجمعين، أو كما قال زهير بن أبي سلمى " قبل حوالي 1500 عام" في شأن العلاقات العدائية والمناوشات الحروبية: "وتطحنكم طحن الرحى...".
وأرجو أن يكف مرتادو "الخطاب الديني المتطرف" - من هنا ومن هناك - عن أن ينفخوا في كير وسعير الفرقة بين الأمة الواحدة.
ولقد سعدت بقراءة ما جاء حديثا في الصفحة الأولى من صحيفة "الوسط" البحرينية عن مقولة للشيخ محمد علي التسخيري "في ندوة نظمت برعاية مكتب الشيخ حميد المبارك، في "بيت القرآن" "أحد أهم المعالم الثقافية - السياحية الرئيسة في البحرين" عن التقريب بين المذاهب، بأن شجع على أن تقام صلوات جماعة بين السنة والشيعة؛ ودعا إلى أن توجد مراكز لتحفيظ القرآن ومكتبات ثقافية ودينية مشتركة بين الطائفتين. وختم الشيخ بمقولة نسبها إلى الشيخ الخميني: "الذين يفرقون بين السنة والشيعة، ليسوا بسنة ولا شيعة".
وبذكر "التقارب" بين المذاهب، أحسنت مملكة البحرين صنعا حينما استضافت منتدى مستفيضا للحوار المذاهبي لعدة أيام "20 - 22 من سبتمبر/ أيلول 2003م" سبقت ليلة الإسراء والمعراج، 1424هـ /2003م؛ وهي ضمن المحاولات المباركات التي تأتي تأسيا بسنة حميدة أخذ بها شيخ الأزهر المرحوم الشيخ محمود شلتوت قبل نصف قرن ونيف، حينما أنشأ مركزا للدراسات المقارنة، وأدخل في الأزهر موضوعات الدراسات الفقهية المقارنة على المذاهب الخمسة؛ وكان أن قام قبلها المحامي المصري المرحوم محمد علي علوبة اشا بأقناع الأزهر بقبول المذهب الشيعي كمذهب وكطائفة، ضمن فكر "تقاربي" محمود كان قد بدأ في مطلع خمسينات القرن العشرين، ونرجو أن نعود الآن إليه!
ومن المحاولات المباركات في سياق "الفقه المقارن" بالذات، كانت أيضا محاولات أخرى في عدد من المناطق الإسلامية الخيرة "المتسامحة"، ومنها - مثلا - مجهودات أحد كبار علماء الشيعة في لبنان المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية، في عدد من كتبه.
وأود أن أختم بالأبيات الآتية التي تنسب إلى الإمام علي "وقال لي أحدهم إن قائلها هو الإمام الشافعي":
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت
أن السعادة فــيها تــرك ما فـيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنهـا
إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنـه
وإن بــناها بشر خـاب بانيــها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهــر نبنيهـــا
أين الملوك التي كانت مسلطــنة
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فكم مدائن في الآفاق قـــد بنيت
أمست خرابا وأفنى الموت أهليها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيهـا
فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
لكل نفس وإن كانت على وجـل
من المنية آمـــال تقــويهـــا
المرء يبسطها والدهر يقبضهــا
والنفس تنشرها والموت يطويها
إن المكارم أخلاق مطهـرة
الدين أولـها والعــقــل ثانيــها
والعلم ثالثها والحلم رابعهــــا
والجود خامسها والفضل ساديها
والبر سابعها والشكر ثامنها
والصبر تاسعها واللـين باقــيها
وكل مناسبة والجميع في وئام وحوار... وتفاهم وإخاء. *كاتب سعودي مقيم في البحرين، وعميد سابق في جامعة البترول
العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ