قد يتوهم البعض أن شعائر الذكرى في عاشوراء عند الشيعة اليوم، أمور مستحدثة لا أصل لها في العصور الإسلامية الأولى، وبالتالي فهي من دسائس الدخلاء الذين يضمرون الشر بالإسلام والمسلمين، لكن مظاهر الحداد والاحتفال بذكرى عاشوراء قديمة جدا قدم المأساة نفسها، إذ بدأت مجالس العزاء بعد مرور أيام قليلة على مصرع الحسين "ع"، وذلك بتوافد أهل الضواحي والسواد إلى كربلاء بعد رحيل الجيش الأموي واجتماعهم رجالا ونساء حول قبر الحسين "ع". ولما عاد الإمام زين العابدين من الشام إلى كربلاء يوم الأربعين وجد أهل السواد مجتمعين حول قبر والده وقبور الشهداء فاستقبلوه بالبكاء والعويل، يتقدمهم الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري "رض"، ولما عاد أهل البيت إلى المدينة المنورة استقبلهم الناس بالنوح وضجت المدينة في ذلك اليوم ضجة واحدة حتى صار ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول الله "ص". وأقيمت مجالس العزاء في أنحاء المدينة، وخصوصا بيوتات بني هاشم فكان مجلس الإمام زين العابدين ومجلس زينب والرباب وأم البنين وغيرها تملأ أجواء المدينة بالكآبة والحزن والحداد.
وكان الإمام زين العابدين "ع" يغتنم كل فرصة لإثارة العواطف وإحياء ذكر المأساة في نفوس الجماهير. مر ذات يوم في سوق المدينة على جزار بيده شاة يجرها إلى الذبح فناداه الإمام: يا هذا هل سقيتها الماء؟ فقال الجزار: نعم يا ابن رسول الله، نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء. فبكا الإمام "ع" وصاح: وا لهفاه عليك يا أبا عبدالله الشاة لا تذبح حتى تسقى الماء وأنت ابن رسول الله تذبح عطشانا.
وسمع ذات يوم رجلا ينادي في السوق: أيها الناس ارحموني أنا رجل غريب، فتوجه إليه الإمام وقال: لو قدر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بلا دفن؟ فقال الرجل: الله أكبر، كيف أبقى بلا دفن وأنا مسلم وبين ظهراني أمة مسلمة؟ فبكا الإمام وقال: "واأسفاه عليك يا أبتاه تبقى ثلاثة أيام بلا دفن وأنت ابن رسول الله".
واستمر أئمة أهل البيت يحثون شيعتهم على إحياء ذكرى عاشوراء على رغم الإرهاب والضغط الذي مارسه حكام عصرهم، وكانوا يفتحون أبوابهم للشعراء والمعزين أيام عاشوراء منذ عصر الإمامين الباقر والصادق حتى عصر الرضا "ع" في عهد المأمون العباسي الذي توسعت فيه شعائر الحسين "ع" وانتشرت مجالس العزاء أيام عاشوراء بتأييد من الإمام، فكانت داره في أيام عاشوراء تزدحم بالناس يستمعون فيها إلى رثاء الحسين، وكلمات الحث والتشجيع من الرضا، فكان من أقواله المأثورة: "إن أهل الجاهلية كانوا يعظمون شهر المحرم ويحرمون الظلم والقتال فيه لحرمته، ولكن هذه الأمة ما عرفت حرمة شهرها ولا حرمة نبيها فقتلوا في هذا الشهر أبناءه وسبوا نساءه، فعلى مثـل الحسين فليبك الباكون".
ولم تزل شعائر عاشوراء تتسع بما تلاقيه من الدعم والتأييد المعنوي من قبل أهل البيت "ع" والعلماء والأعلام في الأوساط الشيعية حتى قامت الدولة الحمدانية فأعطت شعائر عاشوراء قدرا كبيرا من الدعم والتأييد. ثم تلتها الدولة البويهية فوسعوا عاشوراء وأعطوها صفة رسمية تعطل من أجلها الأسواق والأعمال الحكومية، وتخرج مواكب العزاء بالإعلام السود وشارات الحداد تحت إشراف كبار العلماء وأقطاب رجال الدين .
وكانت بغداد في عهد عضد الدولة تخرج عن بكرة أبيها يوم العاشر من المحرم في مواكب عزاء ضخمة يتقدمها رجال الدين والدولة. ولما قامت الدولة الفاطمية في مصر والمغرب العربي انتقلت شعائر عاشوراء إلى تلك الأقطار ودانت حوالي القرنين من الزمن إلى أن قضى عليها الأيوبيون بالقهر والإكراه.
ثم قامت الدولة الصفوية وملوكها علويون نسبا ينحدرون من سلالة الإمام الكاظم "ع" فأحيوا شعائر عاشوراء ووسعوها، فانتشرت في الأقطار الإسلامية مثل البحرين ودول الخليج وآسيا.
إن تعظيم شعائر الحسين "ع" تكريم لمقامه، فقد ورد عن رسول الله "ص" قوله: "ميت لا بواكي عليه لا إعزاز له"، ولما سئل الإمام على: ما هو حسن الخلق؟ أجاب: "أن تعاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم". فأي وسيلة يمكن أن يعـبر بها عن عظيم منزلة الفقيد بين أصحابه ومحبيه أقوى دلالة وأوضح تعبيرا من البكاء والأسى عليه؟ وهل رأينا زعيما شعبيا في العالم مات أو قتل ولم يبك ويحزن عليه أتباعه وأنصاره وشعبه، ولم يجعلوا يوم وفاته يوم حداد وأسى؟ وخصوصا إذا كان موته بصورة مفجعة وقاسية، من قتل أولاده وأطفاله وإخوانه وتقطيع رؤوسهم ورض أجسادهم بحوافر الخيل وحرق الخيام على نسائه وحرمانه من شرب الماء.
إن عظمة الحسين "ع" تفوق عظمة كل عظيم في العالم بعد جده المصطفى "ص" وأبيه علي "ع"، فقياسه على غيره من عظماء الإنسانية قياس مع الفارق الكبير:
فقيد تعفى كل رزء ورزؤه
جديد على الأيام سامي المعالم
لقد صلب المسيح بن مريم "ع" بحسب زعم المسيحيين قبل ألفى عام، ولايزالون يجددون ذكرى صلبه كل عام ويحزنون لذكراه، واتخذوا من خشبة صلبه شعارا عاما فوق كل المؤسسات والجمعيات والكنائس. هذا ويوم عاشوراء عند الشيعة والبكاء والحزن وظهور المواكب الحسينية يرمز إلى إعلان الثورة العاطفية على قتلته الأمويين، والتعبير عن مشاعر الاستنكار والسخط ضد أعداء الحق والعدل.
يقول العقاد في كتابه "أبوالشهداء": "إن الطبايع الآدمية قد أشربت حب الشهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين، وإنما تنحرف عن سواء هذه السنة لعوارض طارئة تمنعها أن تستقيم أو من نكسة في الطبع، لأن العطف الإنساني نحو الشهداء هو كل ما يملك التاريخ من جزاء".
عبرة التاريخ
ويقول العقاد في "أبوالشهداء": وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء وإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيام وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب. فالدولة التي أقامها ابن أبي سفيان في الشام زالت بعد هلاك مؤسسها بأربع سنوات فقط وقامت على أنقاضها دولة مروانية بعد فترة من الفوضى والانحلال، والجهود التي بذلها معاوية كانت تستهدف بقاء الملك في أسرته مئات السنين، وكانت حصينة توفرت فيها كل عناصر البقاء عدا عنصر العدل والحق.
وعندما تنازل معاوية الثاني عن العرش دون أن ينصب أحدا مكانه، ورقي المنبر وخطب خطبة بليغة تعرض فيها لمظالم جده وجرائم أبيه، أكد أن آل محمد أجدر وأحق بالخلافة والسلطان، ومما قال: "أيها الناس انا بلينا بكم وبليتم بنا... وكان أبي غير خليق للخير فركب هواه واستحسن خطأه... وصار في حفرته رهنا بذنبه وأسيرا بجرمه". ثم بكى وقال: "إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقد قتل عترة الرسول "ص" وأباح حرمة المدينة وأحرق الكعبة المشرفة". ثم نزل من على المنبر ودخل داره ومات بعد ثلاثة أيام رحمة الله عليه.
* كاتبة بحرينية
العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ