العدد 896 - الخميس 17 فبراير 2005م الموافق 08 محرم 1426هـ

غياب الأب وانقلاب السيرة

ابن سينا. .. الشيخ الرئيس "3"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

استقر ابن سينا في بخارى في كنف والده الذي وفر له كل متطلبات العلم والتقدم. وهناك امتد صيته كعالم في الطب فاشتهر في مهنته ونال منها سمعة حسنة لم تقل عن مكانته العلمية في مختلف الحقول. في بخارى مارس الشاب/ الشيخ الطب وتابع دراسة علم المنطق والطبيعي والرياضي وأخيرا العلم الالهي فوجده الاصعب على الفهم ومع ذلك برز فيه وهو ابن 18 سنة كما روت الأسطورة. فالأسطورة تقول إن ذاكرته كانت قوية يحفظ بسرعة ويكتب من دون مراجع 50 ورقة يوميا. وهذا ما جعله الأبرز في دائرته الجغرافية والمتفوق على جيله الذي افتقد الكثير مما حصل عليه من حياة مستقرة وأسرة مثقفة وغنية ومنفتحة.

إلا أن الهناء لم يستمر طويلا. فالنعمة التي حصل عليها في صغره ستنقلب إلى نقمة حين بلغ الطفل مرحلة الشباب. ففي فترة شبابه سيشهد العالم الإسلامي سلسلة تحولات ستضطرب من جراء عنفها المناخات الثقافية والسياسية في مختلف الديار الإسلامية. فعلى المقلب القريب/ البعيد ستظهر في مصر شخصية أسطورية في الفترة الذهبية للدولة الفاطمية وستثير تلك الشخصية المتقلبة والمضطربة مشكلات كثيرة ستحرج الدعوة الفاطمية ونشاطاتها السياسية في بلاد الشام وبغداد وبلاد فارس.

آنذاك تولى الحاكم بأمر الله "أبوعلي منصور" أمر الدولة الفاطمية في مصر في العام 386هـ "996م". وكان الحاكم غريب الأطوار فاضطهد الأقليات، وأصدر قرارات قاسية وغريبة من نوعها فصادر الأموال والممتلكات وادعى علم الغيب. فهذا الرجل تحول إلى شخصية أسطورية يتحدث الناس عن غرابة أطوارها حين أخذ يتحدث عن توحيد المذاهب، وعن توحيد الأديان، وتحدث أيضا عن توحيد الفلسفات في سياق مختلط مع ديانات التوحيد السماوية.

أحرجت شخصية الحاكم الدعوة الفاطمية وورطت الدولة في صراعات داخلية وسياسية أنتجت حساسيات انعكست سلبا على توازنات الدولة وعلاقاتها المتدهورة أصلا مع الخلافة العباسية في بغداد.

استمرت فترة الحاكم إلى العام 411هـ "1020م". وبين سنة توليه الحكم ورحيله شهدت الدولة الفاطمية 25 سنة من التوتر السياسي والعقائدي انتشر في مصر وانتقل إلى ضفاف الدول المجاورة. وفي تلك الفترة القلقة اشتد الصراع الإسلامي - الافرنجي في الاندلس في عهد الأمير المنصور في العام 387هـ "997م". وكذلك اضطربت حياة الدولة السامانية وأخذت الفوضى تزعزع الاستقرار الذي شهدته بخارى.

من المغرب إلى مصر والمشرق ومن المشرق إلى بخارى "الدولة السامانية" كانت الديار الإسلامية تعيش حياة مشحونة بالاضطراب والسياسات المتناقضة والمرجعيات المتنافسة التي لا تتفق على شيء على رغم أن التهديدات واحدة ومتشابهة.

إلا أن الحادث الأهم الذي زعزع استقرار ابن سينا وقلب حياته ومزاجه كان نهوض الدولة الغزنوية واتساع شوكتها العسكرية ونمو نفوذها الإقليمي وصولا إلى القضاء على الدولة السامانية. ففي العام 389هـ نجح الغزنويون في السيطرة على نيسابور واقتحام بخارى وتشريد ابن سينا وأهله منها.

آنذاك كان الشاب/ الأسطورة في 19 من عمره كما تقول الحكايات فاضطر إلى مغادرة مسقط رأسه والبحث عن مدينة تلبي طموحاته العلمية وقدراته الطبية ويحكمها أمير عنده الاستعداد لاستقبال شخصية "أسطورية" فاقت شهرتها بخارى. ولم يجد أمامه من خيار سوى الانتقال إلى كركانج فرحل إليها وتعرف على أميرها علي بن مأمون. وهناك استقر ابن سينا لمدة عشر سنوات.

كركانج كانت ميناء عاصمة خوارزم واشتهر أميرها بحب العلم وتشجيع الفلسفة واجتمع في بلاطه الكثير من رموز عصره من علماء وأدباء وفلاسفة ورحالة ومن بينهم الوزير السهلي المحب للفلسفة وابن سهل وابن الخمار والمؤرخ الكبير البيروني. وفي بلاط أمير كركانج واصل ابن سينا ممارسة مهنته وبدأ باصدار بحوثه الفلسفية ودراساته في علم المنطق والطبيعة والعلوم الالهية. وازداد الشاب الطموح نشاطه حين التقى في بلاط الأمير تلك النخبة المميزة من الأدباء والعلماء والفلاسفة فاستفاد منهم وأفادهم وكاد أن يستعيد حكاياته الأولى وينسى بخارى ويبدأ بالاستقرار النفسي لولا وفاة والده في العام 391 هـ. كان ابن سينا في 21 من عمره - كما تقول الحكايات المنقولة عن سيرة الشاب الأسطورة - حين توفي والده رجل الدولة والمشرف على تربيته وتدريبه وتعليمه.

رحيل الأب أحدث انقلابا نفسيا في حياة الشاب/ الشيخ وكان وقعه أشد ألما من سقوط بخارى واضطراره إلى الرحيل عنها. فالمدينة يمكن تعويضها أو استبدالها أما الأب وخصوصا من نوع والد ابن سينا فمن الصعب تعويضه. وفاة الأب أحدثت فراغا في حياة الابن فخسر بغيابه ذاك التوازن النفسي وفقد برحيله تلك الهوية التي ضاعت حين غادر بخارى إثر سقوط الدولة السامانية. فابن سينا الآن لن يعود كما كان. فالسلطة الابوية رحلت عن دنيا الرقابة اليومية. والابن الذي أحب والده سيجد في فراقه مناسبة للتعويض عن فترة المراهقة التي قضاها في البحث والجد في وقت كان أصحابه من جيله يقضونها في العبث واللهو.

غياب الأب صدم تطور الابن وأحدث فجوة أو ما يشبه الانعطاف النفسي في شخصيته فأخذ ابن سينا يبحث عن الملذات والشراب في المدينة/ الميناء من دون أن يهمل تلك الملكات التي تمتع بها وخصوصا ذاكرته التي أسعفته كثيرا وساعدته في تلبية ما يريده عندما يحتاج إليها. فالذكاء الحاد والذاكرة القوية والتربية المرصوصة أنقذت الشاب من الانهيار الكامل ونجح الابن في إعادة تركيب توازنه الداخلي وتجاوز عقدة الفراغ... إلا أنه فشل في أن يعود إلى ما كان عليه في السابق. فالسيرة انقلبت وانقلاب السيرة أوجد مجموعة حالات جديدة توافرت للابن حين كان بحاجة إليها.

عاش ابن سينا في كنف أمير كركانج عشر سنوات قضاها بين اللهو والجد وبين الخمر والكتابة والقراءة وبين حب الحياة وحب المعرفة. فالسيرة انقلبت برحيل الأب إلا أن الابن حافظ على بعض جوانبها وأضاف إليها ما حرم منها في فترتي الطفولة والمراهقة.

حياة ابن سينا لم تكن غريبة عن محيطه وبيئته وجيله. فاضطرابه الخاص انسجم كثيرا مع اضطراب السياسة والعقيدة في محيطه "خوارزم" وصولا إلى بغداد والشام والقاهرة والاندلس. فالعصر كان عصر اضطرابات وتلك الفوضى السياسية - العقائدية كانت تنشر ظلالها وتنتقل وتمتد من المشرق إلى المغرب والعكس. ففي المغرب مثلا تأسست دولة بني حماد في وسط الجزائر سنة 395هـ "1005م". وهذا يدل على فوضى عصبية أنشأت دويلات متصارعة عطلت إمكانات التواصل والوحدة بين الاندلس والمغرب ومصر. وفي القاهرة واصل الحاكم بأمر الله اجتهاداته الخاصة فأمر في السنة نفسها "395هـ" بتأسيس دار الحكمة في عاصمة الدولة الفاطمية بقصد التشبه بتلك الحركة الفكرية "الترجمات" التي شهدتها بغداد في أيام الخليفة المأمون وشهدت شبيها لها قرطبة "عاصمة الاندلس" في عصر المنصور.

هذا الجموح الفكري الذي قاده الحاكم في مصر لم يكن بعيدا عن الطموح السياسي ومحاولته منافسة بغداد على زعامة الخلافة الإسلامية. ففي الوقت الذي كان يؤسس دار الحكمة فكر الحاكم في بسط نفوذ الدولة الفاطمية نهائيا على بلاد الشام فدخل القدس وهدم كنيسة القيامة. وهو العمل الذي أثار الممالك الأوروبية آنذاك وشكل ذريعة من الذرائع التي احتجت بها الدويلات الأوروبية لاحقا بخوض ما عرف في التاريخ بحروب الفرنجة والاستيلاء على سواحل الشام ومدينة القدس. ومن القدس توجه الفاطميون إلى حلب واقتحموها ووضعوا بذلك نهاية للدولة الحمدانية في العام 399هـ "1008م". وتصادف سقوط الدولة الحمدانية في حلب مع سقوط الدولة العامرية في الأندلس وتخريب مدينة الزهراء ونهبها وحرقها في السنة نفسها "399هـ".

إنه تاريخ تلك الفترة. وتاريخ تلك الدول يشبه إلى حد كبير تاريخ ابن سينا الإنسان. فابن سينا تحطم داخليا واستعاد وعيه وتوازنه بعد فترة اضطراب. كذلك الدول الإسلامية فهي كانت تمر بحالات صعود وهبوط وتتحطم أحيانا بسبب عوامل داخلية وصراعات أهلية وحروب عصبيات بين المسلمين. فالدولة العامرية في الأندلس انهارت بسبب اصطدام العصبيات المحلية. والصراع الفاطمي - الحمداني في حلب يشبه ذاك الصراع الذي تفجر بين الدولتين السامانية والغزنوية في بخارى. فسيرة الدول تشبه سيرة الإنسان وابن سينا كان ذاك الإنسان الفاعل والمنفعل الذي انقلبت سيرته في لحظة غياب الأب ورحيله عن صورة الابن.

مضى على ابن سينا الآن عشر سنوات على وجوده في كركانج وخلالها استعاد بعض ما فقد من مراهقته وأخذ يتوازن بين "خير هذا وشر ذاك". عندها قرر الرحيل والمغادرة من جديد إلى مكان آخر بحثا عن استقرار يذكره بماضيه. كان ذلك في العام 399هـ "1009م" حين حمل كتبه ومتاعه مغادرا الميناء الجميل إلى جرجان لعله يجد فيها ذاك الجمال الداخلي الذي يعوض عنه جمال الطبيعة والبحر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 896 - الخميس 17 فبراير 2005م الموافق 08 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً