العدد 895 - الأربعاء 16 فبراير 2005م الموافق 07 محرم 1426هـ

رسم الكاريكاتير... يقول ألف كلمة وكلمة

نادرا ما تهتم الأوساط الثقافية الألمانية بنشاط رسامي كاريكاتير من العالم العربي، إذ الأحكام المسبقة والأفكار السائدة عن الإعلام العربي أنه إعلام مسير يتحكم به مقص الرقيب. لذلك نشأ شعور بأن تعليقات الصحافيين الألمان الذين سيزورون المعرض الذي استضافته ألمانيا عن رسم الكاريكاتير في دول المغرب العربي ستكون كالمعتاد قائمة على الأحكام المسبقة المعهودة، لكن حصلت مفاجأة. فقد تبين للذين زاروا هذا المعرض أن رسم الكاريكاتير في المغرب العربي يجمع بين المكر والضحك والتعب. المعروف أن رسم الكاريكاتير ينوب عن ألف كلمة. ورسام الكاريكاتير يستطيع تجاوز الخط الأحمر بصورة لا يقدر عليها كاتب المقال.

صورة يظهر فيها تلميذ مدرسة يقف مستمعا لوعظ من مدير المدرسة الذي يقول له: كن مجتهدا في دروسك حتى تصبح ذكيا مثل رئيس الوزراء في بلدنا. يرد التلميذ الذكي: أنا لا أذهب إلى المدرسة حتى أصبح مديرا مثلك. النقد أمر لا بد منه عند رسم الكاريكاتير وهناك قول لأحد رسامي الكاريكاتير المشهورين: ينبغي ألا يعرف رسام الكاريكاتير أن هناك شيئا مقدسا ينبغي عدم التعرض له.

كانت برلين، التي تضج بالمعارض الفنية على مدار السنة، محطة لمعرض كاريكاتير في المغرب العربي شارك فيه فنانون من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. الفنان الليبي محمد الزواوي معروف جدا في بلده ويحظى فيها بشعبية واسعة. أما تونس فقد مثلها شاذلي بلخمسة المعروف والمحبوب في الصحافة اليومية. ومن المغرب البلد الذي أنشئت فيه نقابة مهنية لرسامي الكاريكاتير، شاركت في المعرض أعمال ثمانية من رسامي الكاريكاتير في مقدمتهم رئيس النقابة محمد نضراني.

رسم يظهر فيه رجل يجلس أمام جهاز التلفزيون لا يبدو أنه لاحظ ما حصل للتو خارج منزله: فقد انفجرت قنبلة وتطايرت قطع سيارة في الهواء ويقول الرجل عبر نافذة مطلة على الخارج: اسكتوا... بعد قليل سيتحدث الرئيس. ليس من المعتاد أن يجري شرح مطول لرسم الكاريكاتير. ووراء النكتة عادة وصف لوضع مأسوي أو نقد سياسي، لكن الأمر الذي لا خلاف عليه أن رسام الكاريكاتير شخص بالغ الحس وقارئ مطلع بارع في الحكم على الحوادث وسلوك المسئولين في كل موقع ومكان. وكثيرا ما يسبق رسام الكاريكاتير المحررين في الحكم على حدث معين، وبينما ينصرف زملاؤه في قسم التحرير في التمحيص والتحقيق وجمع المعلومات يكون هو قد رصد الموقف وأعده في سياق ساخر وناقد لا يخلو من الجرأة. الصحيفة الجزائرية الفرانكفونية اليومية "ليبرتي" تقدم يوميا في صفحتها الأخيرة رسما ساخرا يحمل اسم "ديلم هذا اليوم" وديلم هو أشهر رسام كاريكاتير في الجزائر. ينتظر القراء نتاجه بلهفة لمتابعة ما رصده من فضيحة أو حادث يستحق الانتقاد. على رغم أن رسم الكاريكاتير يثير الضحك في البداية فإنه سرعان ما يكون مفتاح باب لمناقشة الموضوع الذي تطرق إليه ديلم في هذا اليوم.

في العالم العربي تتوافر لرسامي الكاريكاتير ثروة طائلة من المواضيع التي تستحق أن يعلق عليها المرء ويسخر منها. نبدأ بعجز الدولة والمؤسسات الحكومية وتزوير الانتخابات والفساد وانتهاك حقوق الإنسان وانتشار الأصولية الإسلامية واضطهاد المرأة والتعرض للصحافة والأحوال المعيشية التي تفجر غضب المواطنين... كلها مواضيع تسهم في إثراء نتاج رسامي الكاريكاتير في العالم العربي. ولا تتركز اهتمامات رسامي الكاريكاتير على الحوادث الداخلية، إذ تتطرق أيضا للسياسة الخارجية وخصوصا أن الحرب المناهضة للإرهاب وحرب العراق وفرتا لهم مادة دسمة في العامين الماضيين. وهناك اهتمام لديهم بقضايا العصر مثل تعارض التراث مع الحداثة ومشكلات البيئة والعادات والتقاليد ومرض الإيدز وكذلك الفقر والغنى. ولا يختلف رسام الكاريكاتير في العالم العربي عن زميله المحرر، إذ يفرض الفرد منهم بنفسه رقابة على نفسه ويضع حدودا لجرأته. ويستدل مما عرض من أعمال في برلين لرسامي كاريكاتير من دول المغرب العربي أن غالبيتهم لا يشيرون بالاسم إلى السياسي الذي ينتقدونه باستثناء ما يحصل بوضوح في الجزائر. في رسم يظهر فيه عالم جزائري داخل مختبر يصرخ تحت عنوان "سبق صحافي": نعم اكتشفتها... منذ العام 1962 ولايزال لدينا الرؤساء أنفسهم.

في ليبيا يراقب الفنان الشعبي محمد الزواوي عادات أبناء بلده ويطلع على الناس برسومات مفعمة بالحب والمرسومة بكثير من التفاصيل لتعكس صورة واضحة حياة الشعب الليبي وعاداته. الزواوي يعرض بالريشة والفرشاة خطايا البشر الصغيرة والكبيرة وهموم الفقراء والبسطاء وعيوب الأغنياء. رسم للزواوي في المعرض يسخر فيه من تحجب المرأة تظهر فيه وجوه مخفية لثلاث مخلوقات وتحتها أسمائهن: أنا حلومة وأنا مبروكة وأنا فطومة.

ما من دولة عربية تكافح فيها الصحافة من أجل الحصول على استقلاليتها التامة. وهذا ينطبق أيضا على دول المغرب العربي، إذ إن حرية الصحافة موضوع بالغ الأهمية. فكثيرا ما يجر لفت النظر إلى معاناتها واحتقارها من خلال ريشة رسم معذبة: أقلام ترسم قضبان السجن، وأقلام تقتل بالرصاص، أقلام تستند إلى عكازات وأخرى مكبلة أيديها بالحديد. أو صحيفة داخل الزنزانة يحرسها رجل مسلح. يرى رسامو الكاريكاتير المغاربة أنه ينبغي على المرء أن يضحك إنما بشروط، على مواضيع مثل عذاب الهجرة المشروعة والهجرة غير المشروعة إلى أوروبا عبر مضيق جبل طارق والعنف ضد النساء. ويجمع علماء النفس على أن الضحك يشفي في حالات صعبة، إذ إنه يحرر الخائف من عبودية الخوف. بينما رسامو الكاريكاتير في تونس يهتمون بتفاصيل الحياة التونسية. يتناول شاذلي بلخمسة مواضيع الخطايا البيئية والثروة التي يحصل عليها البعض بسرعة، تحت شعار"من أين لك هذا؟" وهو يؤرخ حياة التونسيين بالقلم والريشة وأفكار تنم عن اطلاع واسع بحياة أبناء بلده.

منذ أن وجد فن رسم الكاريكاتير في إنجلترا في القرن الثامن عشر وهذا الفن يعتبر مرآة فكاهية تعكس صورة المجتمع وهو من أكثر ما تحمله الصحف والمجلات من مواضيع محببة لدى القراء. ولا يحيد رسامو الكاريكاتير في العالم العربي عن أسس هذا الفن فهم يعكسون في أعمالهم صورة المجتمع بما فيه من خصائص ونواقص وعيوب. وأحيانا يدفع هؤلاء الثمن غاليا نظير جرأتهم. فقد أجبر رسام الكاريكاتير الجزائري سيد علي محمد على أن يهاجر بعد أن هدده متطرفون بالقتل عدة مرات. كما أمضى محمد نضراني عدة سنوات في السجن. أما ديلم فقد حكم عليه بالسجن عدة أشهر وبغرامة مالية. خرج هؤلاء جميعهم من السجن ليعودوا على الفور للعمل في نتاجهم المعهود وسط القدر المتواضع المتوافر لهم من الحرية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً