العدد 895 - الأربعاء 16 فبراير 2005م الموافق 07 محرم 1426هـ

يوميات صحافي... سائق تاكسي أو هذيان آخر العمر

الوسط - محمد الرديني 

تحديث: 12 مايو 2017

لم اجد بعد سنوات من الاقامة في نيوزيلندا فرصة عمل جيدة على رغم البحث الشاق عنها وهو حال معظم المهاجرين الذين يواجهون ارضا غريبة وثقافة لا تمت لهم بصلة مع اناس ينظرون اليك بحذر، واقصد بالفرصة الجيدة، تلك الفرصة التي تراعي فارق السن وضعف الخبرة في مجالات عدة، فحين يجتاز المرء العقد الخامس من عمره تتضاءل امامه جميع الفرص وخصوصا انه قادم من بلاد تعلم منها ان الوظيفة الحكومية هي خير ما انتج على ارضها اما الحرف الخاصة والمهن الفنية والميكانيكية وغيرها من المهن المطلوبة في القطاع الخاص فاقرأ عليها السلام.

وفي هذا البلد الذي يهيمن عليه - مثله مثل باقي الدول الغربية - القطاع الخاص ويسيطر على كل مرافقه الحيوية فإنه بات في حكم المنتهي أو المستحيل ان يجد من تجاوزوا سن الشباب من المهاجرين فرصة العمل المناسبة.

أشار علي بعض الزملاء في يوم ما ان انضم الى سلك سائقي التاكسي قتلا للفراغ وبحثا عن التسلية. لم يأخذ الامر وقتا للتفكير... أخذت برأيهم لاجد نفسي ذات يوم أمارس هذه المهنة، هذه المهنة التي ينظر اليها في بلادنا مع - مهنة الشرطي - على انها من المهن المنحطة التي لا يفكر فيها الا الفاشلون في حياتهم او الذين لا يملكون اي طموح في حياتهم.

لم اكن اتصور ان هذه المهنة ستقودني الى اصدار هذه اليوميات التي كشفت لي عن مداخل واساليب حياة هذا الشعب والتي لولاها - هذه المهنة - لما استطعت ان اعرف عنه بالشكل الذي اضعه أمامكم الآن.

"اذا اردت ان تبحث عن الكفاءات في نيوزيلندا، فاذهب الى مواقف التاكسي". هذه المقولة التي اطلقها احد المتحمسين لتشغيل الكفاءات المهاجرة في حزب العمال الحاكم ذهبت مثلا بين جميع المهاجرين الذين قدموا الى نيوزيلندا من مختلف بقاع الأرض. هذه المقولة تقترب من الحقيقة الى حد كبير، فالذي افنى نصف عمره ليحصل على الدكتوراه في الطب او الجيولوجيا او الكيمياء او الهندسة، او ذاك الذي امضى اكثر من عقدين من السنين يكتب ويبحث وينشر ولا يترك اي محفل علمي او ادبي او فني الا ومد انفه فيه، يجد نفسه في لحظة سريالية انه رجل التاكسي الذي يوقف سيارته في الموقف المخصص ينتظر زبونا ينقله الى حيث يريد.

وحتى وظيفة "سائق التاكسي" ليست سهلة في هذا البلد الذي يعاكس في مناخه كل مناخات بلدان العالم "الصيف شتاء والشتاء صيف". فعليك حين تريد الحصول على هذه الوظيفة ان تقبل في دورة لا تقل مدة الدراسة فيها عن ستة اشهرتدرس فيها قوانين السير " الواجبات والحقوق" ومن ضمنها حقوق الراكب - الذي هو دائما على حق - مع اجتياز خمسة امتحانات رئيسية في قراءة الخرائط المحلية المؤشر عليه اسماء الشوارع والمعالم السياحية ودورات المياه العامة والمتاحف ومراكز الشرطة اضافة الى امتحانات فرعية في مسئوليات السائق تجاه المجتمع والغرامات المستحقة في حال الاشتغال اكثر من الساعات المقررة - 10 ساعات يوميا - او عدم تدوين المبالغ والاماكن التي وجد فيها السائق في دفتر خاص، اضافة الى شروط العمل في الليل او النهار وقواعد معاملة المعاق او الذي يصحب معه قطة او كلب " وهما عضوان رئيسيان في العائلة".

واذا كتب لاحد النجاح في هذه الدورة فعليه ان يلتحق باحدى شركات "التاكسي" التي لاتقبله الا بعد ان يجتاز الامتحان اللغوي - اللغة الانجليزية - المصاحب للقراءة الصحيحة لخرائط المدن. وتفرض هذه الشركات شروطا اخرى تبدأ بالراتب ولا تنتهي بمتابعة الشكاوى الصادرة ضده من قبل المواطنين والتي استحدثت لها دائرة خاصة تشبه في صرامتها صرامة دائرة القلم السري في بعض البلدان العربية.

ولايقف الامر عند هذا الحد فانت الآن سائق مستخدم في الشركات الخاصة، فاذا اردت ان ترفع عن كاهلك كابوس "الاستخدام" وتعمل لحسابك الخاص فهناك دورة اخرى بانتظارك مع امتحانين منفصلين في كتابين قانونين تؤديهما بعد انتهاء الدورة.

ولان رجال الكفاءات العربية اعتادوا تحصيل العلم ولو في هضبة التبت فهم لم يجدوا صعوبة في نيل شهادة "سائق تاكسي" عن جدارة واستحقاق.

ولا يستغرب احدكم حين يزور نيوزيلندا ويستقل سيارة اجرة ان يسمع من سائقها حديثا علميا مفصلا عن ميزات التربة والمواصفات الجيولوجية للبراكين في هذا البلد. او يصغي لسائق آخر يتحدث عن وصفة كيمياوية جديدة استحدثها في مختبر بيته المتواضع والخاصة بطرد الذباب او الحشرات من حدائق البيوت. ولا تستغرب ان يقرأ كفك سائق آخر كان قد افنى نصف عمره في الحصول على شهادة الدكتوراه في علم النفس التي يخجل من تعليقها الآن في صالون البيت.

السياط

ذات يوم عرض التلفزيون النيوزيلندي فيلما وثائقيا بمناسبة مرور 200 سنة على اكتشاف نيوزيلندا من قبل الاوروبيين... هذه الجزيرة التي صنعها بركان ضخم ثار ذات يوم في وسط مياه المحيط الاطلسي، كانت ثورته صاخبة عنيفة كما يقول العلماء، لقد قذف المحيط الهادي احشاءه الى اعلى ما يستطيع فوق المياه نحو السماء، عادت تلك الحمم البركانية الضخمة الى الأرض، فكانت الجبال الخضراء ثم الاراضي المنبسطة ثم السهول وينابيع المياه العذبة والشلالات.

بعد ان استقرت هذه البراكين على الارض انتجت الهواء النقي والامطار الغزيرة صيفا وشتاء، وبانت ملامح الجزيرة التي اصبحت الآن مضطجعة باسترخاء تام على خاصرة المحيط الهادئ عرفت هذه الجزيرة بسكانها الاصليين "الماورين" الذين خاضوا حروبهم الاولى مع جيرانهم في الجزر المجاورة قبل اكثر من ألف سنة، وكان مثلهم مثل شعوب الجزر الاخرى في العالم القديم لا يعرفون القراءة والكتابة، يعيشون على الصيد، الوسيلة الرئيسية التي تبقيهم على قيد الحياة. وهم في سحنتهم وبشرتهم البنية وبنيتهم القوية لايختلفون كثيرا - حتى في عاداتهم وطباعهم - عن عرب بادية الجزيرة العربية.

كانت لديهم اغانيهم الخاصة، خصوصا تلك الاغاني التي تصدح بها الحناجر خلال مراسم الزواج او الوفاة وكانت لديهم ايضا اساطيرهم الخاصة، واشهرها اسطورة نشأة الارض والسماء.

تقول الاسطورة:

"في البدء لم يكن هناك نور

الظلام سبق النور على الارض

لان الهتي السماء والارض كانا متحدين مع بعض

اله السماء "رانجي" تزوج الهة الارض "بابا"

اتحدا مع بعض ولم يسمح للنور ان يفصل بينهما

وفي الزمان الغابر امر "بابا" اله السماء

"رانجي" الهة الارض ان تجعل الارض ممتدة

وقبل ذلك كان الاتحاد بين السماء الارض

وهو الحب والالتصاق اللذين استمرا دهورا طويلة

وكان ثمرة هذا الحب العظيم ستة آلهة

انشأوا الجزر والاشجار والحيوانات والبحر

ومخلوقات اخرى عظيمة

وكلهم كانوا يعيشون في الظلام

كان" ناواهيري ماني" اله الرياح والعواصف

و"تانجارو" اله البحار وكل المخلوقات التي تعيش فيها

و"هوماي تكي تكي" اله الطعام الذي يمنحه للبشر

و"رونجو ماتان" اله الخصب والنماء

و"تانا ماهاتا" اله الغابات وكل مايعيش فيها

واخيرا " توماتونجا" اله الحرب والغزوات

وتمضي الاسطورة قائلة:

تعب الآلهة الستة من هذا الظلام المحيط بكل شيء

وقرروا ان يغطوا الكون بالنور بدون معرفة الابوين

وفي لحظة من تلك اللحظات الخارقة شع النور وغمر الكون كله

ولم يكن يعرف هؤلاء الالهة ان هذا النور سيفصل الابوين عن بعضهما

انفصل المحبان عن بعضهما

واصبح العاشقان الملتصقان بعيدين عن بعضهما

وحين افترق العاشقان عن بعضهما

ظلت "بابا" الهة الارض تبكي حبيبها رانجي الهة السماء

الذي كان يبتعد كثيرا كلما مرت الدهور".

كان اول من حط رحاله في هذه الجزيرة هوالبحار "كيوب"، كان ذلك في نهايات القرن العاشر قادما اليها من جزيرة هاواكي التي لاتبعد عنها كثيرا، سماها جزيرة الغيوم البيضاء، بعد ان وجد ان هذه الغيوم تحيط بها من كل جانب.

ونقل في مذكراته ما كان يردده الماوريون عن نشأة هذه الجزيرة:

" منذ آلاف السنين وبعد ان خلقت الارض واستوت

خلق الاله تان ماهوتا اله الجميع

امرأة من تراب الارض الاحمر

رآها جميلة جدا فتزوجها وانجبت منه بنتا ليس لها مثيل في الجمال

وبعد سنوات انجبت هذه المرأة طفلا ليس في روعته احد

هذا الطفل كبر ونما واصبح شابا

كان نصف الاله "ماوي" الذي يعيش في "هاواكي" هو

نفسه الشاب اليافع الذي كبر ونما

وفي يوم من الايام ذهب "ماوي" كعادته للصيد

حاملا معه صنارته السحرية المصنوعة من فكي احدى العجوزات الساحرات

دخل "ماوي" الى عرض البحر

ولكن هذه المرة ذهب بعيدا... بعيدا الى عمق البحر

وفي مكان ما رمى صنارته السحرية الى اعماق البحر

وسرعان ما اصطاد سمكة عملاقة

استغرق وقتا طويلا في سحبها لقاربه

هذه السمكة العملاقة استقرت على الارض الحمراء سنوات طويلة

واتسعت هذه الارض لان السمكة العملاقة زادتها اتساعا

هذه الارض الواسعة الخضراء هي نيوزيلندا"

ولعل اشهر المكتشفين لهذه الجزيرة هو الكابتن البريطاني "كوك" في نهايات القرن الثامن عشر. ويبدو ان هذا البحار المحنك كان على درجة كبيرة من الذكاء وسعة الحيلة اذ سرعان ما عقد صداقات حميمة مع الماوريين الذين وجدهم اناسا عاديين لهم نفس دماء البشر بعكس ما كان يتصوره البحارة الذين سبقوه بانهم كانوا من اكلة لحوم البشر.

وانهالت على الجزيرة بعد ذلك حملات التبشير، جاء رجال الدين من اوروبا وكل يحمل مذهبه بيده، وفي العام 1856 اصبحت هذه الجزيرة مستعمرة بريطانية، وفي العام 1947 استقلت نيوزيلندا عن التاج البريطاني ولكنها اصبحت احدى دول الكومونولث.

نعود الى حديثنا عن الفيلم الوثائقي الذي عرضه التلفزيون بمناسبة مرور 200 سنة على اكتشاف نيوزيلندا.

لم يخجل هؤلاء النيوزيلنديون من عرض الحقائق كما هي حينما اتاحوا للمشاهد الفرصة ليعرف كيف احتل البريطانيون هذه الجزر وكيف استعملوا السياط في ارغام سكانها الاصليين على العمل معهم بالسخرة.

لقد اراد المخرج ان يقول ببساطة اذا كانت هذه السلوكيات تثير الآن قرف هذا الجيل والاجيال المقبلة، فان القرف الحقيقي ان تظل بعض الانظمة في هذا العالم مازالت تعيش بالعقلية نفسها حتى الآن.

ضحك صاحبي الذي كان يشاهد هذا الفيلم معي، ولأني اعرف صاحبي جيدا فقد سألته عن سبب هذه الضحكة الحزينة فقال:

"ذات يوم وقف ابي امامي وهو يمسك سيخ الحديد، وحسبته لاول وهلة انه سيفطر رأسي به لذنب لا اعرفه ولكني سمعته يقول "تذكر يا بني حين تمسك هذا السيخ فان هناك ايادي اخرى تستطيع ان تمسك اسياخا اخرى، ولست يدك وحدها التي تستطيع ان تضرب به فالايادي الاخرى تستطيع ان تفعل مثل ماتفعل انت تماما"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً