ربما كان الشيخ حميد المبارك من قلائل العلماء البحرينيين الذين لا يكفون عن إثارة الجدل الفكري في الساحة الدينية والثقافية في البحرين، إذ طرح من على المنبر الحسيني في موسم محرم الحرام الماضي مفاهيم جديدة أقلقت السائد من الفهم، ما جعل الكثير من المثقفين وبعضا من علية القوم يلاحقون مجالسه وكل له مآربه. وكان الموضوعان الأبرز في محاضرته هما "ان النبي والإمام المعصوم ملزمان بالأخذ برأي الأكثرية"، و"وشاورهم في الأمر" ليست تخييرية للمعصوم وإنما "ملزمة" بحسب تعبيره، وهو ما اعتبره بعض المحافظين فكريا تماهيا مع الفكرة الغربية. كما أن المبارك يؤمن بأهمية النظرة التجزيئية للفكر الغربي ونتاجاته المؤسسية، ويحفر عميقا لمفهوم "الشورى" وهو حفر لا يخلو من التماعة متوقدة للمبارك تحمل نقدا مضمرا لما هو سائد من مفاهيم، وخصوصا بالنسبة إلى مسألة "القيادة". عما طرحه المبارك من مفاهيم وآراء كانت لـ "الوسط" جلسة مطولة مع المبارك الذي يعمل رئيسا للمحكمة الشرعية الجعفرية العليا في البحرين.
الفصل بين الرثاء والفكر
المنبر الحسيني في البحرين جذوره ضاربة في التاريخ، لكن لو قيمنا الآن عطاءات المنبر الحسيني في البحرين بعد هذه الفترة الزمنية البعيدة جدا، فما تقييمكم لهذا العطاء بكل صراحة؟
- أريد أن أركز على مفردتين مهمتين ترتبطان بوضع المنبر الحسيني وقد ترتبطان أيضا بالخطاب الديني العام، المفردة الأولى: هي أنه من الاشكالات الرئيسية في الخطاب الحسيني اليوم هو الاختلاط أو عدم الفصل بين المهمة الفكرية والعلمية وبين المهمة الرثائية. وهذا الجمع أضر بشكل كبير بعطاء المنبر الحسيني وكان من النادر ان نجد من هو قادر على الجمع بين الأمرين بشكل ابداعي وخلاق. توجد نماذج في تاريخ المنبر الحسيني ولكنها نماذج من الندرة بمكان، فمن جانب الرجل القدير علميا أو فكريا ليس بالضرورة أن يكون قادرا على الإبداع في مجال الرثاء والعكس كذلك، من يمتلك خصوصيات أو مميزات في مجال الرثاء من حسن الصوت أو القدرة على تصوير المصيبة أو القدرة على التأثير أو الحفظ ليس بالضرورة أن يمتلك مؤهلات علمية أو فكرية تجعله قادرا على الإنتاج، المشكلة أن العرف العام بنى على ما هو متعارف على الجمع بين المهمتين في شخصية واحدة، والخطيب القادر على العطاء في الرثاء يحاول أن يغلب جانب الرثاء أو أنه سيحاول أن يكون لديه عطاء فكري بحسب مستواه ولكنه لن يكون أرقى من المستوى الذي يملكه لأن فاقد الشيء لا يعطيه والنتيجة أن يكون الرثاء على حساب الفكر أو العكس.
والذي اقترحه في هذا الصدد أن نحاول الفصل بين الأمرين وهذا ليس امرا عسيرا اذا تجنبنا عدم قيام الأول بدور الثاني والعكس صحيح، وبهذا يستطيع العالم أن يركز على إبداعه الفكري أو العلمي ويستطيع الخطيب أن يركز على إبداعه الرثائي.
الاشكالية الثانية التي تؤخذ على الخطاب الديني عموما والخطاب الحسيني خصوصا هي الارتجالية، وأقصد بذلك تناول الخطيب لموضوعات متخصصة لا يعرف فيها الا الشيء النزير، وليس بالضرورة ان يكون الفقيه أو عالم الدين قادرا على التحليل السياسي الدقيق في هذا الموضوع او ذاك كما أنه ليس قادرا بالضرورة على تناول أمور اجتماعية تخصصية دون أن يرجع الى أهل الاختصاص.
هذه مسألة واضحة جدا، فالذي أريد أن أقوله ان الشعور بالاستغناء وأن المفكر الديني أو عالم الدين شخصية جامعة يؤدي بالنتيجة الى إضعاف النتاج . هناك مجال الفقه، فهم النص، البعد التاريخي والاجتماعي والسياسي للدين، كل مجال من هذه المجالات له تخصصه واذا أراد الفقيه أو عالم الدين القيام بكل هذه الأدوار فنتاجه سيكون ارتجاليا ولن يكون متينا. لا نعني بذلك أن الدين لا يتدخل في السياسة كما قد يتوهم بعض الأفراد ولكن ينبغي للخطاب الديني أن يبتني على أقوال أهل الاختصاص وعلى النتائج الاختصاصية، ولدينا في علم اصول الفقه باب يسمى الخبروية وهو يعني اعتماد الفقيه على قول الخبير، ومن النتائج الأصولية الواضحة هي جواز ذلك أي أنه يجوز للفقيه أن يعتمد على أقوال أهل الخبرة وهذا ما ينقصنا في خطابنا الديني الذي يحتاج الى رفد ودعم مؤسسات متخصصة تقدم النتائج في مجالاتها الاختصاصية لعالم الدين، ويكون الموقف الديني مبتنيا على هذه الاستنتاجات المتخصصة، وبغير ذلك سيتيه الخطاب الديني في مجال الارتجال.
لماذا لا توجد ضوابط في مسألة من يتبوأ المنبر الحسيني من الخطباء في البحرين، قبل فترة طرحت فكرة وقيل إنها كانت قديمة، وهي وجود رابطة للخطباء تهتم بتوعيتهم وتركز على اختيار النوعية لترفد بهم المآتم وخصوصا أننا نرى في بعض الأحيان كل من هب ودب يعتلي المنبر ويخلط الأمور بين المواقف السياسية والفكرية ويتكلم عن الحداثة الغربية بما يضر بالمنبر إلى درجة أن الكثيرين من المثقفين سئموا من الاستماع لبعض الخطباء وأصبحوا يبحثون عن خطيب قادر على إشباع رغباتهم أو فضولهم الفكري والعلمي هذه اشكالية حقيقية موجودة في أرض الواقع فما رؤيتك اليها أو ما وجه حلها؟
- في واقع الحال هذه الاشكالية الموجودة تتفرع مما أشرت اليه سابقا بما يرتبط بالارتجال وعدم اللجوء الى أهل الاختصاص، والكلمة إذا لم تنظم فسينعكس ذلك بشكل مباشر على العلاقات البشرية هذه مسألة واضحة، يعني المعادلة واضحة. تنظيم الكلمة له انعكاسه الإيجابي على العلاقات البشرية وعكس ذلك يكون التأثير سلبيا، وبالتأكيد نحن نحتاج الى مؤسسة او نقابة أو جمعية... الى أي عنوان نجمع به الخطباء لتطوير قدراتهم وتنمية مواهبهم واكتشافهم ورفدهم بالمصادر وبالتوجيه، وأن يكون هذا التجمع بمثابة انطلاقة لتنظيم الكلمة كانت هناك مشاورات ولكنها فشلت وسبب فشلها باعتقادي هو التجاذبات السياسية الموجودة في البلد إذ إن الأطراف السياسية في التيار الديني المختلفة في الرؤى والأهداف تخشى أن تكون رابطة أو تكون تجمعا ما يصب في مصلحة إحداها على حساب الأخرى هذا التجاذب سبب رئيسي لفشل أية محاولة لإيجاد تجمع للخطباء.
نستطيع أن نقول إن هذه التجاذبات من معوقات تطوير المنبر في البحرين؟
- نعم انها من معوقات تطوير المنبر كما أنها من معوقات تطوير الكثير من المشروعات الدينية، غالبية مشروعاتنا الدينية متروكة للزمن وذلك لأننا نعيش هذه التجاذبات، كل مشروع لابد أن يبدأ من نقطة ما، ولا يعقل أن يبدأ من كل النقاط. أية نقطة يبدأ منها المشروع فسيقرأ ذلك على أنه محاولة من هذه الجهة التي تتبنى المشروع لكسب المزيد من النقاط أو سحب بساط أو ما شابه ذلك، هذا هو الحاصل بكل اسف.
قراءة الحاضر والمستقبل
البعض يقول إن خطاب المنبر الحسيني في البحرين لايزال خطابا مثاليا لا يقترب من الواقع، يطرح المثل العالية بحيث يعجز المستمع عن الوصول اليها، والبعض يقول إن خطاب المنبر لايزال خطابا أسطوريا يعيش في التاريخ، وهناك من يقول إن كثيرا من الموضوعات الفكرية الملحة غائبة عن اهداف المنبر، فما رأيكم بذلك؟
- هذا السؤال يتصل بأمرين هما عدم قراءة المستقبل قراءة دقيقة وعدم قراءة الحاضر كذلك، وأقصد بعدم قراءة المستقبل أن الكثير من الأمور التي نسمع عنها اليوم لو قرأناها قراءة دقيقة لوجدنا أنها ستصبح واقعا بعد عشر سنين أو عشرين سنة فما نسمع عنه اليوم سيكون عيانا والعيان يكون بعد السمع بطبيعة الحال، وإذا لم نبادر الى إيجاد خطاب ينسجم مع الواقعية المستقبلية فسيكون الخطاب آنيا وتنتهي فاعليته، ولو أخذنا "قضية التعليم الحكومي في البحرين" كمثال، عندما طرحت الدولة في ظل الاستعمار البريطاني قضية التدريس الحكومي جوبهت بموقف علمائي ديني رافض لهذا التدريس بشكل قوي جدا، وذلك الرفض كان يبنى على مبررات من قبيل "الفوبيا" ان صح التعبير وهو رفض مبرر وله مناشئه منها، من الطبيعي ان التعليم المجاني الحكومي لن يكون بلا ثمن، والدولة إنما تسعى لذلك لأجل مكاسب معينة أقلها صنع الذهنية بطريقة تخدم الدولة، وتخدم مصالحها. والتخوف الديني في تلك الفترة من التدريس الحكومي كان له ما يبرره، ولكن لو أن المؤسسة الدينية أو الجهة الدينية في ذلك الوقت استطاعت أن تقرأ الواقع بشكل أفضل مع قراءة مماثلة للمستقبل لما أعلنت ذلك الرفض.
من جانب نجد ان كل ملف تطرحه الدولة توجد ثلاثة خيارات: الخيار الأول هو الرفض والإصرار عليه والخيار الثاني هو الرفض مع إيجاد البدائل والخيار الثالث هو قبول هذا المشروع كواقع إن عاجلا أو آجلا ومحاولة التأثير في ذلك الواقع.
بالنسبة للخيار الأول وهو الرفض المطلق الذي لا يقدم بدائل فليس خيارا مطلوبا، وذلك لأنه مع وجود البدائل سيصبح مشروع الدولة واقعا يفرض نفسه بعد عشر سنين، بعد عشرين سنة، بعد ثلاثين سنة، قد لا تستعجل الدولة ولكنه سيصبح واقعا بالطريقة التي تريدها الدولة وليس بالطريقة التي يريدها عالم الدين. الخيار الثاني أن نرفض مع تقديم البدائل وهذا يثير سؤالا كبيرا وهو أن المؤسسة أو الجهة الدينية - إن صح أن نسميها مؤسسة - هل هي قادرة على إيجاد بدائل كما نجد اليوم بعض الخطباء ينادي فوق المنابر مناشدا أولياء الأمور بعدم إرسال أبنائهم الى المدارس الخاصة لأنها مختلطة، هذه المناشدة لها مبررها ولن أقول خاطئة ولكنه رفض سينتهي أمده بل انتهى أمده لأنه لا يقدم بديلا وبما أنه كذلك فسيبقى هذا المشروع الذي يقدم من الجهات الأخرى هو الخيار الوحيد، ويبقى الخيار الثالث وهو أن ندخل في هذا المشروع وأن نحاول التأثير فيه من قبيل التقليل من الأخطار، وأنا أقول هذا بجدية كاملة وينسحب هذا على كثير من المشروعات المطروحة اليوم أمامنا، الكثير من المشروعات اليوم التي ترفضها بعض الجهات الدينية ولا تقدم بديلا سينتهي رفضها، يعني ستصبح تلك المشروعات واقعا إن لم يكن الآن فبعد عقد، بعد عقدين، بعد ثلاثة عقود وسيصبح هذا الرفض تاريخيا وسيسجل في التاريخ كما حصل في التعليم الحكومي وكما حصل في تعليم البنات وكما حصل في الكثير من الأمور التاريخية. فإذا البديل هو محاولة الدخول في هذا المشروع ومحاولة التأثير فيه وخصوصا في أوائل المشروع؛ لأن عادة الدولة في أوائل طرحها للمشروع أن تكون أكثر استعدادا لإبداء تنازلات أو للمناورة أو للمحاورة في هذا لأنها بصدد تسويق هذا المشروع ولكن بعدما يتمكن هذا المشروع ويصبح واقعا على الأرض فالدولة ستصبح أكثر تصلبا.
اعيد مثال قضية التعليم فلو أن علماءنا الأقدمين وضعوا لمساتهم عليه، لو أنهم طلبوا من الدولة يومذاك أو المستشار البريطاني إدخال المذهب الجعفري في المناهج الدراسية ألا تعتقد أنه كان قابلا للنقاش؟ كان قابلا للنقاش، فإذا هذا أمر وهو قراءة المستقبل يعني قراءة أو فهم المشروعات التي بحسب الدراسات ستصبح واقعا إن لم يكن الآن فبعد زمن ثم محاولة هضمها والتأثير فيها. الإشكالية الثانية قراءة الحاضر وأقصد بقراءة الحاضر قراءة المستجدات الثقافية التي يمكن القول انها تحديات متحركة، تحديات الثمانينات تختلف عن تحديات اليوم، بينما تجد مع الاسف ان احدث كتاب ديني متخصص تقرأه في الحوزات العلمية صدر قبل 400 سنة، تصور! اليوم المعلومة تنتج بالساعة يعني العنصر المعرفي يتجدد بالساعة وخصوصا في الغرب ونحن عكوف على فلسفة مضى عليها 400 سنة هذه مسألة مهمة وهذا مثال على الخطاب الديني العام أو الخطاب المنبري كذلك، إذ إن الخطاب يتناول تحديات مضى زمنها ولا تمثل الآن الا هوامش هنا وهناك. وكنت اقول للكثير من المشايخ والاخوة في الكثير من الاجتماعات والجلسات وفي الندوات ان الإشكالية اليوم ليست في أن نرفض الدين أو نقبله ليست هذه الإشكالية المطروحة أصلا، الإشكالية الأساسية هي فهم الدين، كيف نفهم الدين يعني كيف نقرأ الدين، كيف تتلقى الناس هذه الإشكالية الأساسية. وما يبعث الأمل أن الحوزة العلمية في قم بدأت أخيرا بعض الخطوات الجادة في هذا المسار ولكنها بدأت متأخرة، في البحرين للأسف هذا الخطاب الذي يتناول التحدي الكبير اليوم يعد خطابا نشازا، والكثير من الوجوه الدينية لا تريد أن يطرح هذا الخطاب وكأنها قد دست رؤوسها في الرمل ولا ترى ما حولها.
الخطاب المتوتر
الناقد نادر المتروك كتب تقريرا عن بعض محاضراتكم في محرم قبل الماضي، فمن ملاحظاته أنه كانت هناك إيجابية جدا في الطرح بأن الشيخ حميد يتناول تحديات حديثة ومعاصرة ولكن خطابه مشوب بالتوتر وخصوصا في مجال الحديث عن الحداثة
- ان طبيعة التنشئة الحوزوية تنمي الحذر في الشخصية، وخصوصا فيما يتعلق بالمستجدات، قد تستوعبها وتستطيع أن تدرك ضرورتها ولكنها تبقى حذرة كأنها تفترض أن شيئا ما وراء السطور اعني أن شيئا ما مما يطرحه الآخر يكمن وراء السطور، هذه طبيعة التنشئة الحوزوية ولكن من جانب آخر أعتقد أن الأمر ليس بهذا النحو الذي يذكر إذ إنني أركز على ضرورة أن يكون نظرنا تفكيكيا يعني ألا ننظر الى ما يطرح نظرا مجموعيا اجماليا فلا مانع أن أفك عناصر الديمقراطية وأرحب ببعضها وأرفض بعضها رفضا قاطعا إذ إن المقولات الفكرية والفلسفية دائما هي مقولات مركبة وليست بسيطة. وبعبارة أخرى اسميتها مقولات هرمية متعددة ومثلت لهذا في إحدى المحاضرات بمقولة التعددية وهي ليست مقولة بسيطة بل هي مقولة مركبة لها أجزاء ولها مراتب، من مراتبها نسبية الحقيقة ومن مراتبها التعايش، وهذه تختلف عن نسبية الحقيقة التي لها ايضا مرتبة من مراتب التعددية وقلت ان نسبية الحقيقة بمعنى من المعاني غير مقبولة ولكنها ببعض مراتبها يعني بمعنى من معانيها يمكن أن تستوعب وتقبل، وأشرت الى أن نسبية الحقيقة بمعنى نفي وجود حق و باطل، نفي وجود صواب وخطأ غير صحيح، إذ إن قوام الدين على وجود حق بما هو صريح النص القرآني أنه يوجد صراط مستقيم يهتدي اليه من يهتدي ويضل عنه من يضل ومن يضل الله فلا هادي له هذه مسألة مهمة، ولكننا يمكن أن نتصور بعض مراتب نسبية الحقيقة إذا كنا نعني أنه لا يوجد باطل محض سواء كان وجودا فكريا أو عينيا إلا وهو يحمل شيئا من الحقيقة او متصل بها بنحو ما، ومثلت لهذا بالماركسية، الماركسية التي تفهم على أنها مفهوم مناقض للدين تماما، ولكن لو تأملناها قليلا لوجدناها تلتقي مع الدين في كثير من عناصرها، فهي تلتقي مع الدين في حتمية التاريخ ولا أقصد بالحتمية التاريخية كما توهم بعض الاخوة، المقصود أن التاريخ ينتهي الى نهاية معلومة، الماركسية تقول إن التاريخ ينتهي الى الانعدام والتساوي الطبقي الى الشيوعية ويقول بعض الناقدين للماركسية ان حتمية التاريخ قد تأثرت بالعنصر الديني. ومن هنا يمكن القول انه لا توجد مقولة باطلة بنسبة مئة في المئة كل مقولة يمكن أن نعثر فيها على بعض شعاع للحق وحتى مقولة نسبية الحقيقة لها مراتب وكوني أرفض بعض المراتب فلا يعني ذلك رفضي للمراتب الأخرى، ولا يمكن أن تطالبني وتقول بما أنك رفضت هذه المرتبة فينبغي لك أن ترفض الأخرى وبما أنك قبلت هذه المرتبة فلابد لك أن تقبل المراتب، لا ملازمة بين الأمرين.
نرجع الى خطابكم وتفسيركم لقيادة المعصوم تحديدا بأنها تأخذ أو تقبل برأي الأكثرية في بعض المنعطفات التاريخية واتخاذ القرارات، هذا الأمر لايزال مثار جدل في بعض الجلسات، أحببنا سماع وجهة نظرك؟
- الذي أؤكده هو أن أخذ الإمام برأي الأكثرية هو نتاج المشورة إذ إن الاستشارة التي أمر بها النبي "ص" أو الإمام ليست استشارة شكلية. "وشاورهم في الأمر" قاعدة ينبغي أن نبني عليها كلامنا، ان القرآن الكريم أمر نبيه بالمشورة وهذا الأمر يسري الى الإمام أيضا إذ لا يعقل أن يكون النبي مأمورا بالمشورة والإمام ليس مأمورا بها، والسؤال الآن هل هذه المشورة شكلية أو حقيقية؟ الدلائل تشير إلى انها استشارة حقيقية ولزوم الأخذ برأي الأكثر لأنه لو لم يكن النبي "ص" ملزما بالأخذ برأي الأكثرية لكانت الاستشارة حينذاك شكلية وليست حقيقية.
وقوام الاستشارة الحقيقية الاخذ بنتائجها التي اذا لم تكن مؤثرة فهي شكلية فقط والعناوين الواردة في النص الديني تحمل على المصاديق الحقيقية والجدية ومثلنا بغزوة أحد وهذا الأمر يذكره كل المؤرخين بأن النبي "ص" استشار أصحابه فأشار عليه الأكثرية بالخروج على رغم انه كان يعارض ذلك إلا أنه تخلى عن رأيه وعمل برأي الأكثرية وهو مقتضى المشورة، فهل هذا يتنافى مع العصمة؟ لا يتنافى مع العصمة، إذ إن العصمة كما تعلمون لها مراتب وأكثر الجوانب المهمة في عصمة الإمام أو النبي عصمته عن الذنب إذ إنه لو كان يذنب لأوجب نفور الناس عنه وذلك خلاف كونه قدوة وأسوة، والجانب الآخر في العصمة عصمته في نقل التشريع، عصمته في إرسال الرسالة فلا يخطئ ولا يسهو، الجانب الثالث عصمته في الموضوعات الخارجية والتي لا يتنافى معها أن الإمام مأمور بالأخذ برأي الأكثرية، إذ إن الشريعة يمكن أن تؤسس لنظام يبني عليه الآخرون، إذا تتبعتم أقوال الإمام علي "ع" في نهج البلاغة فستجدون بوضوح أنه لا يتعامل في الأمور الإدارية والسياسية، وبعبارة اخرى انه لا يتعامل مع الناس على أساس أنه معصوم في الأمور السياسية الإدارية، في الأمور والأنظمة لا يتعامل على أساس العصمة وهذا لا ينفي أنه معصوم، هو معصوم، ولكنه مأمور بأن يتعامل على أساس آخر وذلك ليضرب مثالا ونموذجا ليكون هذا هو النموذج الإسلامي فلذلك تلاحظون قول الإمام أمير المؤمنين "ع" في نهج البلاغة "فلا تكفوا عن مقالة بصدق أو نصيحة بحق" هو يطلب من الآخرين النصيحة، واسرع الى القول ان الامام قد يكون غير محتاج إليها، ولكن الإمام كان مأمورا بأن يطلب المشورة والنقد من الآخرين .
من من العلماء يتبنى هذا الرأي؟
- لم أجد تصريحا واضحا من علماء الشيعة برفض هذا المبدأ أو اعتباره مبدأ منافيا للأسس الدينية بل على العكس هذا هو ظاهر الكلمات وتلقيه لسيرة النبي "ص" وأقوال أمير المؤمنين "ع"، لا أستطيع الآن أن أنقل لك جانب الإيجاب ولكن أستطيع أن أنفي السلب يعني لم أجد أحدا من العلماء المعتبرين المعتد بقولهم نفى هذا أو تشدد في رفضه أو اعتباره أمرا يتنافى مع أصول الدين.
ولكني لا أريد هنا ان اتطرق الى النص القائل "أشر علي فإذا أمرتك فأطعني" فهو ليس غائبا عنا والذي اريد ان اؤكد عليه هو أن الإمام لم يخاطب الناس ولا يخاطب الأكثرية ولا يخاطب شخصا بعينه، هذا النص ليس له ارتباط بحديثنا نحن نتحدث عن الاستشارة الكلية يعني المشورة بأخذ رأي الغالبية "وشاورهم" هنا النص مجموعي - مجموع الأمة - ولكن هل أن الإمام مأمور بالأخذ برأي ابن عباس؟ ليس مأمورا يعني أن هذا الحديث أو الرواية في اتجاه آخر أصلا. المشورة إذا أضيفت الى الفرد الواحد فهي لا تعني إلزام المستشير عرفا، العرف لا يفهم هذا المعنى. لو قلت عليك أن تستشير فلان فليس معنى هذا أنك ملزم بالأخذ برأيه ولكن لو قلت لك عليك أن تستشير الناس وتسألهم فهذا يأخذ بعدا آخر، أريد أن أرجع بكم الى قضية غزوة "أحد" كان النبي "ص" مأمورا بأخذ ما يراه انه الصواب والارجح، لوضمت عقول الناس ونسبت الى عقل النبي لرجح عقله إذا هذه مسألة مهمة لو كان النبي مأمورا بالأخذ برأيه لوجب عليه ذلك لأن رأيه هو الصواب ولكن اخذه برأي الناس دليل على أنه مأمور بالأخذ برأي الناس ولدينا قاعدة فقهية تقول إن فعل النبي سنة، ويسأل الفقهاء في فعل الإمام هل يصبح سنة بمجرد أن يفعله مرة واحدة أو أن كونه سنة يتوقف على تكرار الفعل هذه مسألة اخرى الإمام، ولكن المتفق عليه أن فعل النبي ولو مرة كاف في كونه سنة.
في الموضوع نفسه أيضا، هناك آيات في القرآن الكريم ونصوص دينية تقول "وإن تطع أكثر... ولكن أكثرهم لا يعلمون" أو "لا يعقلون" يعني أن هناك آيات كثيرة تذم الأكثرية بالإضافة أيضا الى النص الديني الذي تفضلتم به "وشاورهم في الأمر". البعض يقول إن طريقة تناول الآية بهذا الشكل على طريقة "ويل للمصلين" لأن الآية تقول "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل"؟
- إذا عزمت بعد المشورة طبعا فتوكل على الله وهنا لا توجد مشكلة، قضية ذم الأكثرية في القرآن الكريم قضية ينبغي أن نلتفت إليها، الآيات التي تذم الأكثرية ليست في صدد بيان حكم شرعي أصلا. توجد آثار خطيرة وكبيرة تترتب على التفريق بين آيات الأحكام وبين الآيات الأخرى، يعني ان قسما كبيرا من الآيات ليس بصدد بيان حكم شرعي يعني في سن قاعدة عملية وليس في مقام بيان نظام عملي في قسم آخر من الآيات.
في مقام بيان نظام عملي فالآيات التي تذم الأكثرية ليست في مقام بيان حكم شرعي وليست في مقام بيان نظام يبقى عليه الناس وبالتالى لا تنافي بين الأمرين نحن الآن في زمن الغيبة ماذا نقول؟ نقول يجب الأخذ برأي الأكثرية أيضا كما كان يقرره السيد الإمام رحمه الله بلزوم الأخذ برأي الغالبية حتى في مورد ولي الفقيه، مجلس الخبراء هو الذي ينتخب القائد ومن الذي ينتخب مجلس الخبراء؟ الناس إذا ارجع الى رأي الناس والإمام الخميني رحمه الله له كلمة مشهورة يقول "الميزان هو رأي الناس" ورأي الشعب هذه كلمة مهمة وليست كلمة خطابية، كلمة من إنسان عارف بمداليل وبمضمون الكلام الميزان ولكن هل رأي الشعب يعني الصواب؟ لا يعني الصواب، إذا لزوم الأخذ برأي الأكثرية والصواب ليس بملاكية الصواب وانما بملاكية النظر أو ملاكية العدل ولا يوجد تعارض بينهما، السبب أنه لا يوجد تعارض أولا والآيات الذامة للأكثرية ليست قي صدد بيان حكم عملي أو قاعدة عملية والأمر الثاني الذي يؤكد عدم التضاد وعدم التعارض هو أن الأخذ برأي الأكثرية لا ينبني بالضرورة على أن رأي الأكثرية هو الصواب.
البعض يرى أن القول بهذا الرأي يستلزم إبطال الرأي الديني الذي يقول إن الحاكم يجب أن يكون إسلاميا أو يجب أن يكون فقيها عارفا؟
- لقد شرحت هذه النقطة بشكل مفصل جدا في احدى المحاضرات وقلت إن مواصفات الحاكم لا تعني تلقائية الحكومات، تحديد مواصفات الحاكم من قبل الشرع، لا تعني تلقائية حكومة من يتصف بهذه الصفات وانما تعني أنه يجب على الناس تكليفا أن يختاروا شخصية تتصف بهذه الصفات لجعله حاكما، ان تحديد هذه الصفات يرجع الى الناس ولكن ما هي آلية الاختيار التي يمكن للناس من خلالها معرفة الحاكم الشرعي، هناك عدة آليات منها كما قلنا سابقا مجلس الخبراء مثلما هو موجود في ايران الذي ينتخب أعضاؤه الناس ومن ثم هذا المجلس يختار القائد، أو غير ذلك من آليات فالتجربة البشرية يمكن ان تتطور في مسائل الانتخاب ومسائل الاختيار، إذا فمؤدى تحديد مواصفات الحاكم الشرعي هو انه يجب على الناس ان يتقيدوا في اختيارهم للحاكم بهذه المواصفات، ولكن ماذا لو خالف الناس التكليف الشرعي ولم يمكنوا الشخصية التي تتصف بالمواصفات المطلوبة من منصب القيادة فهل يفرض هذا الشخص نفسه على الناس؟
حتى لو كان إماما معصوما؟
- حتى لو كان معصوما فإن تكليفه يسقط أصلا، كما نرى في سيرة الامام امير المؤمنين لما لم يبايع فان تكليفه سقط، أنا اقول هو امام بالنص ومعصوم ولكن يسقط تكليفه إذا لم يمكنه الناس وأرجو نقل هذه النقطة بالذات وبالدقة لأنها خطيرة جدا وفيها حساسية كبيرة، لا أقول إن عدم اختيار الناس له لا ينفي أهليته لمنصب القيادة ولا ينفي إمامته ولا ينفي عصمته ولكن عدم اختيار الناس له او بعبارة أخرى عدم تمكين الناس له يسقط عنه التكليف بالقيام بأعباء الحكم، إذ لا يكون مكلفا بالحكم إلا بعد اختيار الناس له وهذا الرأي هو نتاج الجمع بين عدد من نصوص كتاب نهج البلاغة التي تؤكد أحقية الإمام امير المؤمنين "ع " في الخلافة مثل النص الذي يقول "أما والله لقد تقمصها ابن ابي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى"، وبين النصوص التي وردت في البيعة طبعا هذا جمع من الجموع. فإذا نحن نقول هذا الفقيه الجامع للشرائط إذا اختاره الناس ومكنوه توجه اليه التكليف بالحكم، وأما إذا لم يختره الناس فقد سقط عنه التكليف وهذا ما صرح به سيدنا الخوئي عليه الرحمة صريحا في فصل الجهاد في كتابه "منهاج الصالحين".
نود معرفة رأيكم في الحداثة الغربية وإمكان تطبيقها على واقعنا ومجتمعاتنا؟
- ان الإشكالية هي في استيراد آليات الحداثة الغربية برمتها ولعل هذه الإشكالية واردة بشكل كبير في فكر محمد أركون، ومحاولته تنزيل تلك المقولات الغربية برمتها الى واقعها الإسلامي، ان هذه المحاولة لا تبتني على أسس موضوعية وذلك لوجود فوارق رئيسية بين النص الديني الإسلامي والنص الديني المسيحي، وان هذا الفارق يوجب فارقا في التعامل مع النص، وأشرت الى أن الفكر المسيحي البروتستانتي الذي هو نقطة انطلاق الإصلاح الديني في الغرب قائم على تعويض النص، أي استبدال النص واعتباره ليس نصا مقدسا إذ اعتبر هذا الفكر أن النص الديني السائد يومذاك أي النص الديني الكاثوليكي ليس نصا مقدسا، أقول ان هذا الأساس وهو استبدال النص وتعويضه واعتباره حقبة تاريخية لها أمد وقد انتهت، أقول إن هذا غير ممكن بالنسبة إلى النص الديني الإسلامي فلذلك نقول إنه ينبغي الالتفات الى هذه النقطة الأساسية والمهمة، وأيضا توجد لدي بعض الإشكاليات الأخرى مثل إشكالية تداخل المستويين في العلم إذ إن عبدالكريم سروش مثلا بنى نظريته "القبض والبسط" على وجود مرتبتين من العلم علم يسمى بعلم الدرجة الأولى ويقصد به علم الفقه، وعلم الدرجة الثانية ويقصد به علم فلسفة الفقه، أي ان الفقيه في علم الدرجة الأولى يقرأ النص وهذه هي المرتبة الأولى "علم الفقه"، وفي علم الدرجة الثانية "علم فلسفة الفقه" أي أن يتناول غير الفقيه الفهم الديني لكن من أبعاد أخرى غير الفقه، مثل أبعاد التحليل التاريخي والتحليل السياسي والتحليل الاجتماعي أي تحليل النتيجة الفقهية من حيث أسبابها ومن حيث نتائجها، أي تحليل ما قبل وما بعد وكما يقول الإنجليز Reason &Result ، أي السبب والنتيجة وهذا يقوم به غير الفقيه، ولكن من الخطورة بمكان أن يتجاوز صاحب علم الدرجة الثانية مساحته إلى المساحة الأولى أي علم الدرجة الأولى وهذا ما وقع لعبدالكريم سروش، بينما نراه يصرح في بعض محاضراته بالقول: إنني لست فقيها وان النتيجة الفقهية أتركها للفقهاء. ولكن مع ذلك نرى انه وقع في الكثير من نقاط فكره في هذا الخطأ، إذ توصل الى نتائج فقهية ولامس النتيجة الفقهية بل توغل في النتيجة الفقهية في بعض الجوانب وهذا خطأ منهجي ومخالف لما بنى عليه نظريته المعروفة بالقبض والبسط، فإذا توجد أشكاليان أساسيان في الفكر الحداثي المطروح في الساحة الإسلامية، الإشكالية الأولى هي عدم تمحيص المقولات الغربية والانبهار بها بشكل مجمل وعام ومحاولة تنزيلها على أرض مخالفة ومباينة أصلا للأرضية الغربية، وأنا لا أقصد بالأرضي هنا الأرضية الاجتماعية أنا لا أتكلم هنا عن الجانب الاجتماعي، بل اقصد الأرضية النصية أي المصدر والأساس الديني، أما الإشكالية الثانية فهي تجاوز الفكر الحداثي لمساحته التحليلية التي في علم الدرجة الثانية والمسماة بالابستميولوجيا الى المساحة الأولى التي هي المساحة الفقهية، وهذا التجاوز خطأ منهجي كبير وخطير إذ تترتب عليه نتائج خطيرة، وهاتان الاشكاليتان تحددان منهجنا في التعامل مع الفكر المطروح اليوم
العدد 894 - الثلثاء 15 فبراير 2005م الموافق 06 محرم 1426هـ