العدد 894 - الثلثاء 15 فبراير 2005م الموافق 06 محرم 1426هـ

صناديق الانتخاب في المملكة العربية السعودية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

الأسبوع الماضي، كان باكورة عمل تاريخي في المملكة العربية السعودية، وستظل صورة رجل من الرياض يحمل طفله الصغير ليسقط ورقة الانتخاب في الصندوق، والتي بثتها وسائل الإعلام علامة فارقة، لعدد من الأسباب: الأول، أن السعودية ركن أساسي في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهي كدولة واحدة من بين اثنتين أو ثلاث من الدول على الأكثر ذات التأثير الأقوى في محيطها. والسبب الثاني، أنه مهما كانت قيمة صناديق الانتخاب في الجوار الخليجي، والتي نقدرها، فهي ليست بأهمية صناديق الانتخاب في المملكة، التي لها معنى رمزي يفوق العملية التنفيذية بحد ذاتها.

ينقسم الناس أمام المشهد الذي كانت باكورته في الأسبوع الماضي، عندما قام أهلنا في الرياض بالتقاطر لاختيار ممثليهم لمجالس البلديات. هذا الانقسام له علاقة بالنظرة الكلاسيكية في التحليل، فالبعض يرى فيما حدث نصف الكأس الفارغ، ويقول بعد ذلك إنها انتخابات بلدية فقط، وهي تتجاوز النصف الاجتماعي وهو المرأة، ويضيف أن المسجلين للاقتراع كانت نسبتهم قليلة، هذا رأي، نحترمه وأيضا نختلف معه. ورأى آخر يرى النصف المليء من الكأس، فيقول إنه بالإمكان من اليوم وصاعدا أن يضيف المواطن السعودي إلى سيرته العملية، أنه شخص منتخب لمنصب رسمي، تلك خطوة، والثانية أنه أصبحت هناك صناديق انتخاب ولوائح ناخبين تنمو مع الأيام كي تستخدم لأغراض أخرى.

الدول مثل البشر تنمو وتتغير وتنضج أيضا، وهناك في السعودية مراكز ثقل حضري لا تقل عن مثيلاتها في الكثير من الدول، حتى المتقدمة، هناك نسبة تعليم مرتفعة بين الرجال والنساء، هناك محامون ورجال تعليم ومهندسون وصناعيون، وهناك سيدات أعمال، وفئة واسعة متوسطة تتعاطى الصناعة والتجارة والخدمات، كلهم تواقون لخدمة بلدهم، وفي مرحلة النضج لا يستبعد أحد أن تتلو انتخابات البلديات خطوات أخرى كانتخابات مجلس للشورى.

وتجربة مجلس الشورى الحالي تتسم بالعمق والثقة والاستقلالية، وربما لو تمت انتخابات في المستقبل بضوابط يحددها المجتمع، كما تمت في البلديات، لحصلنا على مزيج من الخبرة والحماسة تأخذ البلاد إلى آفاق أرحب وأوسع.

الضوابط متبعة في كل تجربة سياسية، وليست بدعة، البعض يحددها بنوع من المواطنين "عمال وفلاحين" في الخبرة العربية، أو مستوى من التعليم في بعض الخبرات الأخرى، وهي أي الضوابط، موجودة بأشكال مختلفة. فمثلا في تجربة الكويت مازال شرط القراءة والكتابة معمولا به للمترشح، ويذكر من هم من المخضرمين أن امتحانا قد وضع لأحد الأشخاص الذين انتخبوا في البرلمان الكويتي منذ سنوات لمعرفة قدرته على القراءة والكتابة، بعد إعلان فوزه، هكذا تتطور المجتمعات وتنمو وتترسخ تجربتها.

كل تجربة إنسانية لها سلبيات، ولا توجد تجربة سياسية أو غيرها مكتملة لا يأتيها الخطأ من بين يديها أو من خلفها، هناك مساوئ ومحاسن، أثمان وخيارات، إلا أن نضج الدولة والمجتمع، يهيئ للتجربة الفرصة للانتقال إلى خطوات أخرى أكثر نضجا.

وفي السعودية إن أردنا التعميم، هناك على الأقل فئتان من النشطاء، واحدة تتسم بالعقل والموضوعية وطلب التدرج، وتضع برنامجا إصلاحيا تتعاطف معه شريحة واسعة من المجتمع، نجدها ظاهرة للعيان في أهل القلم والفكر والنشر والمتعلمين والمهنيين والاقتصاديين، وأخرى صغيرة ولكنها لا تطرح برنامجا غير التخويف وإرهاب المواطنين. وبقراءة ما بين سطور ما تطرح الفئة الثانية، يتبين للمراقب أنه برنامج إن تجاوزنا التعبير، متخلف وضبابي، يريد العودة بالمجتمع إلى القرن الثامن الميلادي أو ما قبله، وهو أمر إلى جانب كونه غير عقلاني فإنه يغلق أبواب المستقبل ويقعد حركة المجتمع ويصادر على المجتمع طموحه في الرقي والتقدم، كما ترفضه الغالبية من الناس.

إلى جانب ذلك لا يمكن تنفيذه على مجتمع ودولة لها قيادات وشرائح اجتماعية واسعة وواعية. فلم يكن بالمستطاع تطبيق مثل هذا البرنامج في بلد شبه متخلف في أقصى الأرض بعيدا عن الاحتكاك بالعالم مثل أفغانستان، البلد الذي ظل يراوح مكانه في منطقة ما ومكان ما من القرون الوسطى، فما بالك ببلد منفتح هو قبلة المسلمين جميعا ومصدر من مصادر الطاقة الدولية في آن، تطورت فيه مدن حديثة ومجتمع حيوي وصناعات ناهضة قادها رجال من ذوي العزم و البصيرة.

جانب مما حصل في المملكة العربية السعودية من إرهاب وقتل، هو بسبب الإصلاحات لا بسبب نقصها، إن قارنا برنامج الإرهابيين بما تحققه الدولة الحديثة، فهو يسير بعكسها، يريد أن يرجع الأمور إلى الوراء والناس، كل الناس، تريد التقدم إلى الأمام. طبيعة الدولة الحديثة لا تسمح لا كمؤسسات ولا كمجتمعات أن يتم ذلك، مهما تلبس أولئك الذين ظلموا أنفسهم بلباس التراث أو الدين؛ فطبيعة الدولة الحديثة تتناقض قطعا مع أطروحاتهم القريبة إلى السذاجة.

خطوة انتخابات البلديات في الرياض الأسبوع الماضي، هي خطوة أولية، وهي قد بدأت وتستكمل في الأسابيع القادمة، لأن المشاركة في اتخاذ القرار، هي عملية دائبة التغيير والاستمرارية، وهي قد بدأت، وكانت الحملة الانتخابية - لمن تابعها، وقد نشرت الصحف الكثير من تفاصيلها، مقرونة بالموازنات التي رصدت لها، وصور المترشحين وبرامجهم المختلفة - تعني الكثير لمن يريد أن يقرأ النتائج خلف المظاهر.

تعني الخطوة، فيما تعنيه، أنه بالإمكان إدارة حملات انتخابية متحضرة وسليمة، وتعني أيضا إمكانية القيام بالعملية الانتخابية بسلاسة ويسر، فالديمقراطية هي في نهاية المطاف نتائج ملموسة للناس، وليست هياكل فقط، واستنباط لشكل من أشكالها يناسب المرحلة وتطور البلاد ويحقق رغبة أهلها.

الحديث سهل والتطبيق صعب، ولكن الأهم أن نقرأ ما حدث ويحدث بعين المحلل المراقب اليقظ، فقد كان من السهل التذرع بهجمة الإرهاب القريبة لتأخير فتح صناديق الانتخاب، إلا أن أهل الرؤى وجدوا عن حق، أن أحد أساليب إسكات الرصاص الطائش والقتل العمد والعشوائي، هو فتح صناديق الانتخاب وهكذا كان، وهكذا يرجو كل مخلص أن تتسع الدائرة بتؤدة، ولكن بثبات

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 894 - الثلثاء 15 فبراير 2005م الموافق 06 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً